عدن... العودة لنقطة الصفر
ساعد موقع وميناء مدينة عدن الاستراتيجي على طريق التجارة القديم على أن تكون المدينة ملتقى للتجارة العالمية بين قارات العالم القديم آسيا وأفريقيا وأوروبا، فجذبت إليها السكان من المناطق العربية المحيطة بها ومن شرق آسيا وأفريقيا، مما أدى إلى تجانس واختلاط قوميات وعرقيات متعددة فيها. وازدهرت المدينة سياسياً اقتصادياً وثقافياً في ظل السيطرة البريطانية عليها، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية.
تعدد المشاريع السياسية
بعد احتلال بريطاني لعدن دام 129 سنة كانت عدن والولايات التابعة لها (22 سلطنة وإمارة بجنوب اليمن) عزمت على تحقيق استقلال الجنوب بالقيام بثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1963 المسلحة لإخراج بريطانيا، وكان المشهد حينها معقداً لتعدد المشاريع السياسية بين القوى المحلية المناهضة للبريطانيين، فكان شعار "عدن للعدنيين" حاضراً بقوة في سنوات الستينيات.
وفي هذا السياق كان من ضمن الأطروحات ما تقدمت به الجمعية العدنية التي طالبت بحل مستقل لعدن عن بقية مناطق الجنوب، إذ رفع قادة الجمعية مشروع تحقيق الاستقلال لعدن في إطار رابطة الكومنولث البريطاني، وذلك إلى حين تنضج الظروف في بقية المناطق الأخرى التي تحتلها بريطانيا من الولايات البريطانية.
وكان هذا المشروع يحظى بتأييد كبير بين الطبقة الراقية والمثقفة من العدنيين، كما انتخب مجلس تشريعي خاص بعدن كأعلى سلطة تشريعية فيها، يتكون من ثمانية أعضاء يمثلون طوائف عدن، فكانت كل طائفة تنتخب ممثلها.
عدن تعارض الدمج
يذكر الكاتب الراحل عبده حسين الأهدل في كتابه الشهير "الاستقلال الضائع.. الملف المنسي لأحداث اليمن الجنوبية" أن شعب عدن بكل فئاته وأحزابه عارض مشروع بريطانيا في قيام دولة الاتحاد الفيدرالي (دمج عدن مع ولايات الجنوب العربي) على رغم أنه لا يملك حرية التصرف في منعه.
ويضيف، "معارضة عدن لفكرة الاتحاد الفيدرالي وإشراك عدن فيه مبنية على أنه لا يمكن ضم مستعمرة عدن الواقعة تحت التاج البريطاني مع ولايات ترتبط بمعاهدات فقط مع بريطانيا، فالفارق الدستوري كبير وواضح بينهما،
ولذا، ظهرت هذه المعارضة من شعب عدن، مما جعل بريطانيا تدرك أن الاستعجال في انضمام ولاية عدن في دولة الاتحاد في بداية تأسيسها، سيضطر بريطانيا إلى تعيين من يمثل عدن من العدنيين أنفسهم".
"عدن للعدنيين" مرة أخرى
انتهى صراع فترة الستينيات بين القوى والأحزاب السياسية في جنوب اليمن، بجلاء البريطانيين عن عدن والمحميات الجنوبية، وانفراد الجبهة القومية بالسلطة، وولادة جمهورية جنوب اليمن الشعبية التي ضمت عدن وبقية مناطق جنوب اليمن ممن كانت تسمى الولايات.
وبعد أكثر من نصف قرن من الزمان عادت الدعوات العدنية القديمة إلى الواجهة تتحدث عن مظلومية العدنيين.
بين حين وآخر يردد بعض شباب عدن شعار "عدن للعدنيين"، وهو الشعار القديم، الذي رفع أثناء احتلال بريطانيا لعدن وسلطات أقصى جنوب شبه الجزيرة العربية، إضافة إلى ظهور شعار آخر مستحدث، وهو (دولة عدن).
يقول الشاب هاني محمد، "نمارس بعض الأنشطة السلمية المطالبة بحقوقنا، لكن بحذر خوفاً من السلطات الأمنية"، مضيفاً "أهل عدن لديهم مظلومية لا حل لها إلا إعطاء عدن حكماً ذاتياً، فنحن نعاني من طرفي الصراع اليمني في الشمال والجنوب معاً، وأهل عدن في كل الصراعات السياسية هم الضحية، عدن هي من تدفع الثمن غالياً".
على رغم السيطرة الكاملة لقوات المجلس الانتقالي على مدينة عدن منذ أغسطس (آب) 2019، لم تختفِ تلك الدعوات العدنية، وينظم نشطاء عدنيون أنشطة مجتمعية تطالب بالحفاظ على الهوية العدنية ذات الجذور التاريخية الموغلة في القدم، وسط حالة غضب من أعمال البسط التي طاولت المواقع الأثرية والحضارية في المدينة.
مجلس أبناء عدن
تمكن نشطاء المجتمع العدني من تنظيم أنفسهم تحت إطار المجلس التشريعي العدني في خطوة لأحياء المجلس التشريعي القديم فترة الاحتلال.
يقول رئيس مجلس أبناء عدن مروان أنجلان إن المجلس هو الحاضنة الشعبية لكيان المجلس التشريعي العدني، لافتاً إلى أن تشكيل المجلس جاء في خطوات ومراحل متصاعدة بناءً على تصاعد مطالب شعبية عدنية توجت بالحركة الاحتجاجية في الـ16 من فبراير (شباط) 2011، أثناء أحداث الانتفاضة الشعبية اليمنية ضد نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح، عندما خرج أبناء عدن حاملين شعارات معبرة عن رفضهم لتهميشهم وإقصائهم من التمكين السياسي والوظيفة العامة والحقوق والخدمات.
من الحرب إلى الهيكلة
يعترف انجلان في حديثه بحدوث اختراق في مطالب تلك الحركة الاحتجاجية ومحاولة حرف مسارها خلال في فترة ما قبل اندلاع حرب 2015 التي شنتها جماعة الحوثي على عدن،
لافتاً إلى إفشال تلك المحاولة، بخاصة بعد اندلاع الحرب، فتحول اهتمام أهل عدن إلى الدفاع عن مدينتهم فكانوا في مقدمة الصفوف المدافعة، وتحقق النصر بتحرير عدن، وبعدها دشن المجلس العدني مرحلة جديدة من مشروعه بالانتقال من العمل الثوري إلى العمل السياسي والإداري المنظم وذلك بإعادة الهيكلة التنظيمية تحت كيان سلمي هو المجلس التشريعي العدني الذي يحمل أهداف المشروع العدني، وبدا المجلس بتقييد أعضائه، وهم مواليد عدن ما قبل عام 1990 م أو أحد والديهم، ثم كان الإشهار العلني للمجلس عبر الانتخاب الحر.
مشاركات محلية وعربية
ويمضي في حديثه بالقول، "نمارس نشاطنا كمجلس تشريعي للدفاع عن حقوق ومطالب أبناء عدن، بعدما أصبح هذا الصرح العظيم واقعاً ملموساً بعد إعادة إحيائه، وهذا منجز كبير، ويهتم المجلس بإسداء التوصيات والمقترحات والمعالجات الهادفة إلى الدفع بالمشروع العدني إلى الأمام، إضافة إلى دور الرقابة المجتمعية بحسب قانون السلطة المحلية،
كما ينظم المجلس حملات توعية لأبناء عدن بحقوقهم وتشجيعهم على رفع مطالبهم بطريقة سلمية حضارية على رغم القمع والاعتقالات ضدنا، وتمكنا من لقاء عدد من مسؤولي الحكومة من الوزراء وحكام المدينة لشرح مطالبنا، وشكونا لهم من الإقصاء والتهميش الممارس ومطالبنا الاعتراف بقضيتنا بصورة واضحة وصريحة".
لم يكتفِ المجلس بالمشاركات والأنشطة المحلية، فخارجياً شارك المجلس ممثلاً برئيسه في حضور توقيع اتفاق الرياض بين الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، وتلبية دعوة الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي السابق نايف الحجرف للمشاركة في المشاورات اليمنية - اليمنية في الرياض في الثامن من أبريل (نيسان) 2022 الذي نتج منها إنشاء مجلس القيادة الرئاسي وهيئة التشاور والمصالحة.
يشير انجلان إلى أن أهل عدن لا توجد لديهم العنصرية والتعصب ضد الآخرين، فعدن مدينة تجمع كل الأعراق، والعدنيون هم كل سكان مدينة عدن الذين خدموها وبنوها ولم يقفوا ضدها، ولم يخونوها بحملهم مشاريع سياسية لا تصب بمصلحتها، وابن عدن هو من يدين بالولاء لها ويضع مصلحتها فوق كل الاعتبارات.
شراكة غير متكافئة
وفقاً لرئيس المجلس العدني، "تعرضت عدن خلال تاريخها لكثير من المظالم، ففي حقبة الثورة من أجل الاستقلال في ستينيات القرن الماضي حرمت عدن من حقها في المشاركة في رابطة الكومنولث التي تضم الدول التي استقلت عن بريطانيا، ومن جانب آخر دخلت عدن بشراكة غير متكافئة مع الجنوبيين في مشروع اتحاد الجنوب العربي، وكان ذلك وفق شروط، على رغم رفض بعض أبناء عدن لهذا الانضمام،
وبعد انسحاب بريطانيا أواخر 1967 تسلمت الجبهة القومية عدن وولايات الجنوب وسلبت من العدنيين مدينتهم، ومارست مع الطبقة التجارية والصناعية العدنية أبشع الممارسات القمعية وأعمال التأميم، وسرحت كثيراً من وظائفهم، وأصبح العدنيون فقراء مشتتين، لا لهم ولا عليهم غرباء في مدينتهم، مما اضطر بعض الأسر العدنية العريقة إلى الهجرة، واليوم التاريخ يعيد نفسه، فلم يحسب حساب أبناء عدن في صنع القرار السياسي ويتم تهميشهم، ودمرت عدن وتراجعت مكانتها".
بين الوحدة والانفصال
وحول موقع عدن اليوم بين مشاريع الوحدة والانفصال يشرح أنجلان، "الوحدة اليمنية ظلمت عدن وأبناءها بحكمها المركزي من صنعاء، وهي مظلمة يتحمل مسؤوليتها القادة الجنوبيون في الحزب الاشتراكي الذين ذهبوا بنا إلى الشمال تحت مسمى الوحدة اليمنية بخطوات غير مدروسة ولا استفتاء شعبي".
"أما مشروع الدولة القادمة المتمثل في الدولة الاتحادية اليمنية بناءً على المرجعيات الثلاث المعترف بها دولياً ومحلياً التي ننشدها وتأسس تحت مظلتها مجلس القيادة الرئاسي، فهي منصفه بصورة كبيرة لمدينة عدن وأبنائها،
ومما جاء فيها أن تكون عدن مستقلة إدارياً وعاصمة اقتصادية ومنطقة حرة يديرها مجلس المدينة المجلس التشريعي المنتخب أعضاءه انتخاباً حراً ومباشراً، ولها حاكم ينتخب من أبناء عدن، ونحن نعتبر ذلك من المكتسبات الوطنية التي حصلت عليها القضية العدنية والمتمسك بها مجلسنا"، وفق حديثه.
بين الأمس واليوم
يعيد رئيس المجلس العدني إلى الأذهان الحديث عن شعار "عدن للعدنيين" الذي عاد للمشهد اليوم، ويوضح بأن الشعار أطلقه ابن عدن الأديب والمفكر الراحل محمد علي لقمان في خطابه بمقر الأمم المتحدة في فترة الاحتلال، وتحدث فيه عن مطالب أبناء عدن، مطالباً بالحكم الذاتي لمدينة عدن، وكان من أهداف هذا الشعار رفض محاولة بريطانيا جلب موظفين من غير أبناء عدن لتسليمهم وظائف في حكومة عدن،
فكان من الطبيعي أن يردد الشعار من قبل العدنيين "عدن للعدنيين" الذين أبعدوا من الوظيفة العامة مع أنهم يمتلكون المؤهلات والخبرات الوظيفية والإدارية والأمنية المختلفة، وتلقوا التعليم في مصر والسودان وبريطانيا وغيرها، بينما كان يتم توظيف بدو المحميات وبعض الأجانب مكانهم.
مزيد من التشظي
ويشير الكاتب والمحلل السياسي أحمد الدثني إلى الأهمية الكبيرة لمدينة عدن، بخاصة في أواخر سنوات الاحتلال البريطاني كمنطقة جذب للتجارة والاستثمارات الأجنبية، نظراً إلى استغلال بريطانيا لموقعها الاستراتيجي، ناهيك باستقرار عدن سياسياً، وكل ذلك وفر مناخاً لاستقطاب العمالة بصورة مضاعفة عن السابق، وبخاصة العمالة الماهرة وبعض التخصصات العلمية التي لم تكن متوافرة حينها في أبناء البلد المحليين، فأصبحت فرصتهم لبعض الأعمال أقل بكثير مقارنة بالفرص المتاحة للعنصر الأجنبي، بالتالي لا بد أن تكون لغة الغالبية هي لغة التجارة كتحصيل حاصل، وفق قوله.
ويتابع الدثني، "من هنا كان لا بد لأبناء عدن، كشريحة اجتماعية راقية تمثل كل أبناء المناطق اليمنية الواقعة تحت حكم التاج البريطاني، من المطالبة بحقوقهم في العمل واعتماد لغتهم العربية، فأطلق شعار (عدن للعدنيين) الذي لم يقتصر على عدن الجغرافية، وإنما يشمل بقية المحميات البريطانية المجاورة، وتحت ذلك الشعار حققت كثيراً من المطالب".
في المقابل يرفض الدثني "إعادة إحياء شعارات عدن للعدنيين مجدداً، مهما كان لذلك الشعار من مكانة حينها، فالدعوات الجديدة لن تنتج إلا مزيداً من التشظي للمجتمع ودعوة لإثارة النعرة المناطقية والعنصرية التي لم تكن من سمات أبناء عدن ولا أظنهم يتقبلونها، ولا يمكن لذي عقل أن يمجد أو يناصر أي دعوة للمناطقية، كأن تصبح حضرموت للحضارمة والمهرة للمهريين دون غيرهم وعدن للعدنيين".
ويستدرك، "ربما نتفهم عودة ظهور مثل هذه الشعارات بعد أكثر من نصف قرن على ظهورها الأول، لكن قبل أن ندعو أبناء عدن لرفضها لا بد لنا أن نسأل ونبحث عن الأسباب التي تثير مثل تلك الدعوات العنصرية غير المقبولة، فهل السلطات التي تدير عدن اليوم تتعمد إقصاء أبناء عدن المسالمين، وهل هناك من يسعى إلى تهميش أبناء عدن مجدداً، أم إن التهميش والإقصاء إن وجد ليس مقتصراً على أبناء عدن وحدهم، ومهما يكن فظروف الأمس تختلف عن اليوم، فشتان بين زمنين، وستبقى عدن كما عهدناها في التسامح والتعايش".
جمال شنيتر ، صحافي ومراسل تلفزيوني