أولوية السلم الأهلي في سورية
عاشت سورية خلال الأيام القليلة الماضية، أحداثاً دموية، وما تبعها من جرائم ارتكبت بحق مئات المدنيين على أساس طائفي، شملت الإعدامات الميدانية، إلى جانب تسجيل انتهاكات بحق أسرى وثّقها مرتكبوها في إطار التباهي بجرائمهم.
وعزّزت هذه الأحداث، وما رافقها من سقوط مئات الضحايا بين مدنيين وعناصر أمنية ومن فلول النظام السابق، والتي تعد الاختبار الأقوى منذ سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، قلق السوريين على السلم الأهلي في سورية وراهن ومستقبل بلادهم التي تواجه تحديات اقتصادية وسياسية وأمنية تحول حتى اللحظة دون ترسيخ استقرار أمني ومجتمعي.
ويخشى السوريون من عودة دورة العنف على أسس طائفية هذه المرة، تنسف السلم الأهلي والاستقرار الأمني الذي ما يزال هشّاً حتى اللحظة، بسبب رفض فلول النظام السابق تسليم سلاحهم وإجراء تسويات مع الإدارة الجديدة.
ولا تزال وزارة الداخلية السورية، التي يتبع لها جهاز الأمن العام، تبذل جهوداً لضبط الأمن والاستقرار في مدن وبلدات محافظتي اللاذقية وطرطوس، بعد حدوث انتهاكات وعمليات تصفية واسعة النطاق قامت بها مجموعات منفلتة ممن جاءت لمؤازرة وزارة الدفاع أثناء عملية التصدي للتمرد العسكري الذي بدأ الخميس الماضي في المحافظتين الساحليتين.
وواصلت وزارة الداخلية أمس الأحد، إرسال تعزيزات الى مدن وبلدات الساحل السوري، من أجل ضبط الأمن وإعادة الاستقرار الذي تحاول جهات عدة العبث به، خصوصاً في المناطق المختلطة، لا سيما ان الفوضى بيئة خصبة لكل المشروعات التي تهدد وحدة سورية المجتمعية والجغرافية.
ورغم محاولة وزارة الدفاع نسب الانتهاكات من عمليات تصفية لمدنيين وسرقات بيوت ومحال تجارية، لعناصر منفلتة،
إلا أن هذه الاتهامات لا تعفي الدولة السورية من مسؤولية ما حصل ما لم تتم محاسبة مرتكبي هذه الانتهاكات لأي جهة انتموا، سواء لمجموعات مسلحة قاتلت إلى جانب وزارة الدفاع أو من عناصر فلول النظام المخلوع الذين تتجه إليهم أيضاً أصابع الاتهام بالتورط بعمليات تصفية لمدنيين من الطائفة العلوية لتحميل الإدارة السورية مسؤولية ذلك وجرّ البلاد إلى حرب أهلية.
ومنذ سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر من العام الفائت، سجلت العديد من الأحداث التي عكست إمكانية تهديد السلم الأهلي، وسرعان ما كان يتم تطويقها، بما في ذلك عبر الحوار المجتمعي كالذي حدث في بلدة جرمانا بالقرب من دمشق أخيراً،
ولكن ما جرى في الساحل السوري يومي الخميس والجمعة الماضيين كان الأخطر حتى الآن.
وخلال كلمة ألقاها بعد صلاة فجر أمس في مسجد الأكرم بحي المزة في دمشق، أكد الرئيس السوري أحمد الشرع أن التحديات التي تواجه سورية حالياً تأتي ضمن المتوقع، مشدداً على ضرورة المحافظة على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي.
كما ظهرت العديد من الدعوات التي تحض على حماية السلم الأهلي في سورية باعتباره مسؤولية وطنية مشتركة تقع على عاتق جميع مكونات الشعب الذي ما زال يتابع بقلق ما يجري في الساحل السوري من تطورات تهدد هذا السلم.
لجنة سورية لتقصي الحقائق
ودعا الباحث السياسي رضوان زيادة، إلى "تشكيل لجنة لتقصي الحقائق لمعرفة حقيقة ما جرى في الساحل من انتهاكات"، معتبراً أن "هذه خطوة أولى وواسعة للحفاظ على السلم الأهلي في سورية".
وتابع: "نحن أمام مسارين مختلفين: الأول هو حقّ الدولة في بسط سيطرتها على كامل التراب السوري ومنع بوادر انقلاب عسكري في الساحل، والثاني هناك عمليات قتل جرت خارج القضاء والقانون يجب التعامل معها عبر تشكيل اللجنة".
وأشار إلى أنه "لا يمكن القبول بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في سورية الجديدة، ولكن في الوقت ذاته، يجب ألا نتسرع في إطلاق الاتهامات، لذا على الحكومة المبادرة في تشكيل لجنة سورية مستقلة ترفع تقريرها للرئيس لقطع الطريق أمام أي تدخل دولي".
وعصر أمس، أعلنت الرئاسة السورية عن قرارها "بتشكيل لجنة وطنية مستقلة للتحقيق وتقصي الحقائق في أحداث الساحل"، لافتة إلى أن "من مهام اللجنة الكشف عن الأسباب والظروف التي أدّت إلى وقوع هذه الأحداث، والتحقيق في الانتهاكات التي تعرض لها المدنيون"،
كما من مهامها "التحقيق في الاعتداءات على المؤسسات ورجال الأمن والجيش وتحديد المسؤولين عنها"، طالبة من "جميع الجهات الحكومية التعاون مع اللجنة لإنجاز مهامها".
وتتكون لجنة التحقيق وتقصي الحقائق من خمسة قضاة ومحام وعميد. ووفق بيان الرئاسة، أعضاء اللجنة هم القاضي جمعة الدبيس العنزي، والقاضي خالد عدوان الحلو، والقاضي علي النعسان، والقاضي علاء الدين يوسف، والقاضي هنادي أبو عرب، والعميد عوض أحمد العلي، والمحامي ياسر الفرحان.
من جهته، رأى مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، أن حماية السلم الأهلي في سورية "تتطلب اعترافاً من الإدارة بما حدث من تجاوزات أثناء التصدي لفلول النظام المخلوع في الساحل"،
مضيفاً أنه "يجب إعلان الحداد على القتلى من عناصر الأمن العام، وعلى الضحايا من مدنيين غير مسلحين، ويجب حصول اعتراف (بالقتل) وتحقيق وتعويض من الدولة".
ولفت إلى أنه "عندما يخطئ أي جهاز تابع للدولة، عليها محاسبته وتعويض الضحايا، وإحالة مرتكبي الانتهاكات إلى القضاء وعزلهم من وظائفهم في حال ثبوت ارتكاب تجاوزات".
وبرأيه، فإن "هذا كلّه يؤسس للسلم الأهلي". كما دعا عبد الغني الإدارة السورية إلى إطلاق "حوار مجتمعي في المناطق التي حدثت فيها انتهاكات"، مضيفاً أن "التشاركية السياسية تؤسس لسلم أهلي مستدام".
مسارات لحماية السلم الأهلي في سورية
وفي السياق ذاته، رأى الباحث في مجال الهوية والحوكمة، زيدون الزعبي، وهو ناشط بمجال السلم الأهلي، أن حماية السلم في سورية "تتطلب إطلاق مسار عدالة انتقالية من دون انتظار"،
داعياً إلى "الضرب بيد من حديد كل من يحمل السلاح في وجه الدولة وخارجها"، مضيفاً أن "على الإدارة الجديدة إطلاق مسار حوار وطني كبير من أجل حماية السلم الأهلي".
أما الباحث السياسي مؤيد غزلان، رأى ، أنه "لا يوجد صدام أهلي في سورية"، متحدثاً عن "سبل عدة لحماية السلم".
وقال: "كان من أهداف التمرد في الساحل السوري استحداث حرب أهلية، ولكن الحاضنة الشعبية العلوية لم تساند هؤلاء الفلول وتبرأت منهم".
ورأى أن "هناك إجراءات وقائية لا بد من القيام بها لمحاصرة أي محاولات لزعزعة السلم الأهلي، من خلال الحوار المجتمعي المستمر وحوار بين السلطة والمجتمع، ينعكس على المسار السياسي من خلال إشراك كل المكونات في الحكومة والمجلس التشريعي المقبلين".
وتحدث غزلان أيضاً عن "ضرورة استحداث عقد اجتماعي جديد بين مكونات الشعب السوري والسلطة، عنوانه الوحدة الوطنية، وقوامه الخطاب الوطني والهوية الجمعية، وعماده الوئام الوطني".
وتابع: "يجب استحداث منابر للاستماع للأهالي على مستوى المدن والبلدات في البلاد، لبقاء حوار مستدام في سورية، واستحداث دواوين للمظالم في كل مؤسسات الدولة، وتعزيز مبدأ المواطنة الكاملة بما فيها من حقوق وواجبات. هذا كلّه يحمي السلم والاستقرار في البلاد".
وحذّر الباحث السياسي من أن نظام الأسد "عزّز الحالة الطائفية في البلاد من خلال إنشاء كانتونات من لون واحد"، مشدداً على "وجوب أن تنحصر الحالة الطائفية ضمن الحالة الوطنية وهذا الأمر يحتاج إلى المزيد من الوقت".
وبرأيه، فإنه "لا يمكن صهر جميع الشعب خلال أشهر قليلة في خطاب وطني جامع، والدولة السورية الجديدة ما تزال فتية وعمرها ثلاثة أشهر فقط"، مبيناً أن "العدالة المجتمعية هي جزء من السلم الأهلي، والسلم الأهلي يؤسس على العدالة الانتقالية".
وشدّد في هذا الصدد على "ضرورة محاكمة كل متهم بالإجرام بحق الشعب السوري مالياً وجسدياً، كي لا تحدث ممارسات انتقامية من المواطنين تهدد السلم الأهلي.
يجب على الدولة المساواة بين المواطنين بالحقوق والواجبات بغض النظر عن معتقدهم، وهذا الأمر من ركائز السلم الأهلي الأساسية"، وفق رأيه.
وارتفعت أصوات السوريين عقب أحداث الساحل السوري في المنتديات تدعو الإدارة الجديدة إلى فتح مسار سياسي جاد وحوار مجتمعي للوقوف على أبرز المخاوف والهواجس، لا سيما لدى الأقليات العرقية والمذهبية والدينية، وتقديم تطمينات دستورية لتبديد هذه الهواجس.
وفي هذا الصدد، قال سعيد ن، وهو أحد العاملين في مجال الإعلام ويتحدر من محافظة السويداء جنوب سورية، إنه "لا خشية لدى السوريين على مستقبل بلادهم، ولكن لدينا خشية من تعرض السلم الأهلي في سورية لأكثر من اختبار دامٍ خلال الفترة المقبلة"،
مشدّداً على أن "البلاد لم تعد تحتمل دورة عنف أخرى". وتابع: "سورية اليوم تحتاج إلى إطلاق حوار مع النخب والفعاليات، والإسراع في تشكيل حكومة من كفاءات مشهود لها بالنزاهة والوطنية لقطع الطريق أمام العابثين في البلاد".
وأعرب عن اعتقاده بأن أمام الإدارة الجديدة "فرصة ذهبية يجب ألا تضيع من أجل بناء دولة مواطنة حقيقية لكل أبناء سورية"،
معتبراً أن "ما يطفو على السطح الإعلامي لا يعكس حقيقة ما يجري في البلاد. كل السوريين مع وحدة بلادهم وتشكيل جيش وطني ومؤسسات أمنية قادرة على حماية السلم الأهلي والاستقرار".
محمد أمين
صحافي سوري