المثقف الفاشل… كارثة اليمن الصامتة
في اليمن، اعتدنا أن نحمّل الفاسدين والجهلة مسؤولية الخراب، وأن نلعن السلاح والتطرف وتجار الحروب… لكننا نتهرّب من مواجهة حقيقة أخرى أشد مرارة:
المثقف الفاشل أخطر على اليمن من الفاسد، ومن المطبل، ومن كل جيوش الرقص حول السلطان.
فالمطبل وظيفته واضحة، يقبض ويهزّ رأسه.
والمزمّر معروف، يعيش على فتات السلطة.
أما المثقف الفاشل فهو يتزيّا بزي “النخبة”، يتحدث بلغة نصفها غربية ونصفها غبار قرون قديمة، ويخرج لنا بشكل محترم جدًا… بينما وظيفته الحقيقية:
تزيين القبح… وتبرير الخراب… وإضاعة الفرص.
وهم النخبة… وفضيحة العجز
في بلد ينهار منذ نصف قرن، ظهر “مثقفون” عادوا من جامعات العالم ببذلات راقية وابتسامة واثقة، لكنهم عادوا بدون أهم شيء:
الموقف.
عادوا ليكونوا
مستشارًا عند فاسد،
كاتبًا عند شيخ،
لسانًا لحزب،
ديكورًا في مكتب مسؤول،
أو ضيفًا دائمًا على قناة فاشلة لا يصدّقها حتى المذيع نفسه.
هؤلاء أسوأ من الطبال والمزمار، لأن المطبل لا يدّعي البطولة، أما هم فيرفعون راية “المعرفة” ويمشون فوق جثث القيم.
التاريخ لا يخلّد الشهادات… بل الرجال
لم يخلَّد البردوني لأنه درس فلسفة.
ولا الجاوي لأنه لبس بدلة أوروبية.
ولا جار الله عمر لأنه سافر للخارج.
تاريخ اليمن خلدهم لأنهم وقفوا في وجه السلطان، ودفعوا الثمن من حياتهم وأعمارهم وأمنهم.
أما المثقف الذي يعود من الغرب ليصنع لنفسه مجدًا ورقيًا وشكلاً و“برستيجًا”، دون أن يترك أثرًا، فهو مجرد نسخة راقية من الطبال… يستخدم لغة أفخم لنفس الوظيفة:
السكوت عن الظلم… وتجميل المستبد.
المثقف الذي لم يؤثّر… لم يوجد
المثقف الذي لا يكسر صمتًا
ولا يفضح السلطة
ولا يواجه الطغيان
ولا يزعج الفاسد
ولا يخلق فكرة
ولا يصنع تغييرًا
هو شيء واحد فقط:
ثرثرة ببدلة.
اليمن لا تحتاج إلى مزيد من الثرثارين؛ فالشوارع ممتلئة، والمكاتب مليئة، وصفحات الفيسبوك تغرق بهم.
اليمن تحتاج إلى مثقف يوجع… لأن الحقيقة لا تُروى بالهمس.
لماذا فشل المثقف اليمني؟ (تحليل نفسي–اجتماعي–ثقافي–سياسي)
1. نفسيًا: الخوف مقيم في القلب
معظم المثقفين يخافون من السلطة، ومن القبيلة، ومن الحزبية، ومن الإقصاء.
يكتبون بحذر، يتكلمون بحساب، ويحسبون ألف مرة قبل نشر فكرة… لذا لا يصل صوتهم أصلًا.
2. اجتماعيًا: مجتمع يكره من يكسر الصف
المجتمع يصفق للساكت، ويعاقب من يزعج الاستقرار الوهمي.
يحب “المثقف المهذب” الذي لا يكشف العيوب… ويكره المثقف المزعج.
3. ثقافيًا: استبدال الفكر بالشهادات
أصبح المجتمع يرى الشهادة أهم من الموقف.
كثير من المثقفين يظنون أنهم “مثقفون” لأن لديهم ماجستير من لندن أو دكتوراه من واشنطن… بينما لا يستطيعون كتابة جملة تهز حجرًا واحدًا.
4. سياسيًا: شراء الذمم أسهل من بناء دولة
السلطات المتعاقبة صنعت جيشًا من المثقفين المرضيّين، لا لأنهم أكفاء، بل لأنهم قابلون للاستخدام… وغير مزعجين.
الرؤيا: كيف نخرج من لعنة “المثقف الفاشل”؟
1. صناعة ثقافة الموقف لا ثقافة الشهادة
علينا أن نعيد تعريف المثقف:
ليس هو من يحمل دكتوراه… بل من يحمل موقفًا.
2. حماية المثقف الشجاع
بناء شبكات دعم للمفكرين الشجعان، وتأمين منابر لهم، لأن من يواجه سلطة منفردًا يُسحق، ومن يواجهها بصوت جماعي يُسمع.
3. خلق بيئة نقدية حرة
لا نهضة بلا نقد.
ولا نقد بلا حماية.
ولا حماية بلا قانون يحمي الكلمة من عصابات السلطة والقبيلة.
4. تعزيز استقلال المثقف ماليًا وإعلاميًا
المثقف الذي يعيش على راتب مسؤول لن ينتقده…
والذي ينتظر منحة حزب لن يفضحه.
الاستقلال الاقتصادي بداية الاستقلال الفكري.
5. إحياء نموذج المثقف المقاتل
نحتاج جيلًا جديدًا من مثقفين يشبهون:
البردوني… الجاوي… جار الله عمر.
رجالًا يقفون في وجه السلطان لا على بابه.
الخلاصة
المثقف الفاشل ليس ظاهرة عابرة… إنه أخطر أدوات الخراب في اليمن.
هو الساكت حين يجب الكلام، والمبرر حين يخطئ السلطان، والديكور الذي يلمّع الوجوه القبيحة.
وما لم تستبدل اليمن هذا النموذج البائس بنموذج المثقف الشجاع، فكل مشاريع الدولة ستظل مجرد قصائد رديئة… يكتبها مطبل ببدلة.
بقلم: د. فيروز الولي