
الحوثيين في المعادلة الأمريكية: أداة ضغط أم تهديد غير محسوب؟
السياسة ليست سوى رقعة شطرنج تُحرِّكها المصالح، تُعيد تشكيل التحالفات، تُبدِّل الخصوم بالحلفاء، وتحوِّل الحروب إلى لحظاتٍ من الهدنة المؤقتة، حيث يصبح الصراع ذاته جزءًا من معادلة كبرى لا تبحث عن الحسم بقدر ما تبحث عن إعادة توزيع النفوذ. هذه الحقيقة تتجلَّى بوضوح في الصفقة الأخيرة التي أبرمتها إدارة ترامب مع الحوثيين، تلك اللحظة التي بدت كأنها نقطة تحوُّل لا تقتصر على اليمن، بل تمتد إلى الشرق الأوسط كله، مُعلنةً نهاية مرحلة وبداية أخرى أكثر تعقيدًا.
وقف الضربات الأمريكية ضد الحوثيين لا يعني بالضرورة التخلي عن الضغط العسكري، لكنه يشير إلى إدراك متزايد بأن المواجهة العسكرية وحدها ليست كافية لتعديل موازين القوى. هذا القرار، الذي جاء بعد أسابيع من الهجمات المكثفة، يعكس مقاربة جديدة، حيث يتم استبدال التدخل العسكري بترتيبات سياسية تضمن تحقيق مصالح واشنطن بأقل تكلفة ممكنة، دون الحاجة إلى خوض معركة طويلة الأمد تُؤدي إلى استنزاف غير ضروري.
عندما تتوقف العمليات العسكرية بشكل مفاجئ، ويُعلن عن اتفاقيات دون مقدمات واضحة، يصبح التحليل المنطقي لهذه الأحداث ضرورةً لفهم ما وراء هذه التحولات، واستكشاف خفايا القرارات التي تبدو خارج سياق التوقعات. لا يمكن للحدث أن يكون مجرد انعكاس لقرار فردي، بل هو دائمًا نتاج شبكة معقدة من العوامل التي تتداخل فيها الحسابات الاستراتيجية، والتوازنات الداخلية، والأزمات المالية، والسياسات الكبرى للدول الفاعلة.
يبدو أن الصراع في اليمن لم يعد مجرد حرب بين جماعة انقلابية ودولة، بل أصبح ساحةً تتداخل فيها القوى الإقليمية والدولية، حيث يتصارع النفوذ بين الولايات المتحدة وإيران، وبين إسرائيل والجماعات التي تصفها بأنها تهديد وجودي.
لهذا، فإن أي صفقة سياسية تتجاوز الحسابات العسكرية المباشرة، وتفتح المجال أمام ترتيبات جديدة لموازين القوى، لا يمكن أن تُقرأ فقط في ضوء مصالح طرفي الاتفاق، بل يجب أن تُفكك ضمن إطار شامل يعكس التغيرات في السياسة الدولية، والتحولات في رؤية الدول الكبرى لمسارات السيطرة والنفوذ.
عندما تقرر الولايات المتحدة، التي قادت حملة عسكرية مكثفة، وقف ضرباتها الجوية ضد الحوثيين، فإن السؤال الأهم لا يكون فقط حول أسباب هذا القرار، بل حول ما إذا كان يعكس تحوُّلًا جذريًا في الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة.
قد تكون التكاليف العسكرية والاقتصادية عاملًا مؤثرًا، لكن التاريخ يُظهر أن المصالح الجيوسياسية تظل المحرك الأساسي في أي قرار يتعلق بوقف أو استمرار العمليات العسكرية.
فهل جاء هذا القرار بناءً على اقتناع بأن الحملة الجوية لم تكن فعالة في ردع الحوثيين؟
أم أن الضغوط الإقليمية فرضت تغيير المسار؟
وهل تم استخدام وقف الضربات كورقة تفاوضية لإعادة العلاقات مع إيران، التي كانت قد علّقت محادثاتها بشأن البرنامج النووي؟
إيران، التي لطالما استفادت من الفوضى الإقليمية لتعزيز نفوذها، تظهر كمستفيد رئيسي من هذا الاتفاق. ليست المسألة مجرد إنهاء مواجهة عسكرية، بل هي إعادة ترتيب لمعادلة الصراع، بحيث يتم استبدال المواجهة المباشرة بصفقات سياسية تُعيد ضبط التحالفات الإقليمية.
حين تعلن إيران عن استئناف المفاوضات النووية بعد وقف الضربات على الحوثيين، يصبح من الواضح أن هذه الخطوة لم تكن مجرد قرار عسكري تكتيكي، بل جزءًا من استراتيجية أوسع تضع مسألة "النفوذ الإيراني" في إطار تفاوضي جديد.
في عالم السياسة، ليست هناك صفقات مجانية؛ كل تنازلٍ يأتي مقابل مكسبٍ في جانبٍ آخر من المعادلة.
وقف الضربات العسكرية لم يكن قرارًا منعزلًا عن سياقه، بل جزءًا من استراتيجيةٍ أوسع تقوم على إعادة تعريف أدوات الضغط، حيث لا يكون الهدف القضاء على التهديدات بالكامل، بل إدارتها بما يخدم مصالح القوى الكبرى، ويُعيد ضبط التوازنات الإقليمية دون الحاجة إلى مواجهاتٍ مفتوحة.
هذه المقاربة لا تُظهر ضعفًا، بل تعكس تطورًا في فن إدارة النفوذ، إذ بات الاقتصاد والمفاوضات أكثر أهميةً من التصعيد العسكري، الذي ثبت مرارًا أنه لا يُؤدي إلى نتائج مستدامة. فالتدخلات العسكرية، رغم قوتها التدميرية، لا تخلق حلولًا دائمة، وإنما تفرض واقعًا مؤقتًا سرعان ما يتغير.
لذلك، لم تعد واشنطن تنظر إلى المواجهات بوصفها طريقًا لحسم الصراعات، بل كأداةٍ لخلق شروطٍ تفاوضية تُفضي إلى ترتيباتٍ سياسية تُحقق مصالحها بأقل تكلفة ممكنة.
الحوثيون، الذين طالما رأوا في التصعيد العسكري وسيلةً لتثبيت موقعهم، يقرؤون الاتفاق بشكل مختلف. بالنسبة لهم، توقف الضربات الأمريكية ليس مؤشرًا على تسوية سياسية، بل دليل على أن الولايات المتحدة أدركت استحالة إضعافهم عسكريًا، وأنهم لا يزالون القوة الأبرز في المشهد اليمني.
ليس هناك شك في أن هذا الاتفاق سيُعيد تشكيل ميزان القوى داخل اليمن، حيث ستسعى الجماعة إلى استغلال هذا التطور لتعزيز نفوذها، وإحكام قبضتها على المناطق الخاضعة لسيطرتها.
في الجانب الخفي من هذه المعادلة، يدرك الحوثيون جيدا أن توقف الضربات لا يعني بالضرورة انتصارًا لهم، بل يمنحهم فرصةً لإعادة ترتيب استراتيجياتهم الداخلية.
الحوثيون، الذين نجحوا في التكيّف مع التغيرات الدولية والإقليمية، يدركون أن واشنطن لا تبحث عن القضاء عليهم، بقدر ما تبحث عن إدارتهم كأحد العناصر الأساسية في معادلة النفوذ الإقليمي، وهو ما يمنحهم مساحةً أكبر لتعزيز سلطتهم، دون الحاجة إلى تقديم تنازلات فعلية على مستوى التفاوض السياسي.
لكن التحوّل الأكثر إثارة في المشهد يتمثل في موقع إسرائيل داخل هذه المعادلة الجديدة، حيث تجد نفسها خارج حسابات الاتفاق بشكل غير اعتيادي.
واشنطن، التي كانت على الدوام تعطي الأولوية لحماية المصالح الإسرائيلية، تبدو اليوم أكثر انشغالًا بترتيب مشهد الشرق الأوسط وفق مصالحها الخاصة، دون الالتزام المطلق بما تفرضه تل أبيب من أولويات.
هذا الغياب لا يعني تخلي الولايات المتحدة عن دعم إسرائيل، لكنه يعكس مقاربة جديدة يتم فيها التعامل مع التهديدات وفقًا لمنطق أكثر براغماتية، حيث يصبح ضبط التصعيد أهم من تبني مواقف عدائية مفتوحة.
الحوثيون، الذين كانوا يُنظر إليهم كتهديد مباشر لإسرائيل، لم يتم تضمين مواجهتهم ضمن بنود الاتفاق، مما يترك تل أبيب في موقف يثير التساؤلات حول مدى نفوذها الفعلي في السياسة الأمريكية الجديدة.
السياسة الأمريكية ليست مجرد خطوة تكتيكية، بل هي جزء من استراتيجية أوسع تقوم على التلاعب بالمخاطر، بحيث لا يكون الهدف القضاء على التهديدات بالكامل، بل استخدامها لضبط طموحات الحلفاء، وضمان أن تظل القوى الإقليمية تحت السيطرة.
السياسة، في جوهرها العميق، ليست مجرد تفاعل بين القوى، بل هي فنّ إعادة تعريف الممكن والمستحيل، حيث تتحول المخاطر إلى أدوات تُوظَّف بعناية لإعادة ضبط مسارات الدول، ورسم مستقبل التحالفات وفق رؤية تخدم مصالح القوى الكبرى.
في هذا السياق، لا يكون الهدف من إدارة التهديدات القضاء عليها بالكامل، بل التحكم بها وتوظيفها لإبقاء الدول داخل دائرة النفوذ، بحيث تظل بحاجة دائمة إلى الحماية والتوجيه.
هذه الاستراتيجية، التي تتقاطع مع المنطق الإمبريالي القديم، تجعل من التهديدات الأمنية عنصرًا أساسيًا في هندسة العلاقات الدولية، حيث يصبح التفاوض عليها أشبه بإدارة الموارد، وليس مجرد صراع وجودي بين الأطراف.
التهديد الحوثي، بوصفه تحديًا إقليميًا، لم يكن أبدًا مجرد معضلةٍ أمنيةٍ يجب حلها، بل كان جزءًا من معادلة القوة التي تُبقي الخليج داخل المنظومة الأمريكية، وضبط الطموحات الإسرائيلية المتنامية في الغرب.
لذلك، حين يُطرح الحوثيون في سياق الحسابات الأمريكية، لا يكون الأمر مقتصرًا على تعامل واشنطن معهم كطرف في الصراع اليمني، بل بوصفهم جزءًا من معادلة أكبر، حيث يُعاد تعريف دورهم وفقًا للتحولات في العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل والخليج العربي.
هنا، يصبح التهديد الحوثي عنصرًا في إدارة التوترات بين واشنطن وتل أبيب، وعلاقتها الخليج العربي، حيث تُشغل إسرائيل بملفات أمنية إقليمية، مما يحدّ من قدرتها على التوسع في مشاريع الاختراق السياسي داخل الغرب، ويمنح واشنطن مساحة أكبر للتحرك دون أن تكون مُلزمة بمجاراة التصعيد الإسرائيلي في كل مرحلة.
على المستوى الخليجي، فإن استمرار التهديد الحوثي لا يُقرأ فقط بوصفه تحديًا أمنيًا مباشرًا، بل كعاملٍ يعزز الحاجة إلى الحماية الأمريكية، مما يُمكّن واشنطن من فرض شروطها في ملفاتٍ استراتيجيةٍ مثل الطاقة والتطبيع، وإعادة إنتاج الهيمنة الأمريكية وفق متطلبات المرحلة.
هذه الحاجة المستمرة إلى تأمين الخليج تعيد إنتاج معادلة الاعتماد العسكري الأمريكي، حيث تجد الرياض وأبوظبي نفسيهما في موقعٍ يُحتّم عليهما طلب الدعم المستمر، والامتثال للتوجهات السياسية والاقتصادية التي تُمليها واشنطن، بما يضمن استمرار النفوذ الأمريكي في المنطقة.
وهنا يكمن جوهر الاستراتيجية الأمريكية الجديدة؛ فهي لا تهدف إلى إنهاء الصراعات، بقدر ما تهدف إلى إدارتها بطريقةٍ تضمن تحقيق مصالحها دون الدخول في مواجهاتٍ طويلة الأمد.
إبقاء التهديد الحوثي دون حسمٍ نهائي يمنح واشنطن سيطرةً أكبر على التوازنات الإقليمية، حيث يدفع بالإمارات والسعودية نحو الامتثال السياسي والاقتصادي، ويُرغم إسرائيل على التعامل مع تهديداتٍ إقليمية، بدلًا من تركيزها على توسعها السياسي داخل الغرب، مما يسمح للولايات المتحدة بإعادة ترتيب نفوذها في المنطقة دون الحاجة إلى مواجهةٍ مباشرةٍ مع أيٍّ من الأطراف الفاعلة.
لكن هذه السياسة لا تخلو من المخاطر؛ فالرهان على إدارة التهديدات، بدلًا من القضاء عليها، قد يتحوّل إلى عبءٍ استراتيجيٍ في المستقبل، لأن القوى التي يتم توظيفها مؤقتًا قد تخرج عن السيطرة، وتتحوّل من أدوات ضغطٍ إلى قوى إقليمية يصعب احتواؤها.
فإذا تمكن الحوثيون من تعزيز نفوذهم بشكلٍ أكبر خارج اليمن، فإن ذلك سيعيد تشكيل المعادلة الإقليمية، ويجبر واشنطن على تعديل استراتيجيتها، مما قد يؤدي إلى صدامٍ جديدٍ لم يكن ضمن حساباتها الأولية
منور مقبل
كاتب يمني