
نقض الفكرة: الحوثية كنسق مضاد لبنية الدولة
أعتقد أن سؤال الدولة في اليمن اليوم ليس سؤال بنية مؤجلة، بل سؤال نقيض حاضر، إذ لم يعد الصراع قائماً على مشروعين سياسيين متنافسين في إطار الممكن، بل بين فكرة الدولة كضامن للحق العام، وجماعة انقلابية لا تؤمن إلا بمراكمة الامتياز خارج منطق القانون. هنا، لا تنبع خطورة الحوثية من سلاحها وحده، بل من كونها تعيد تعريف الدولة باعتبارها ملكية خاصة، وتحول موارد الوطن إلى امتيازات سلالية مغلقة، وتصوغ علاقتها بالمجتمع من موقع الفوقية العقائدية لا من رحم التعاقد المدني. ومن ثم فإن الإصرار على إدماجها في عملية سياسية تحت سقف الدولة، ليس سوى إنكار لمفارقة بنيوية جوهرها أن هذا الكيان لا يمكن أن يكون شريكاً في ما يصر على نفيه من الأصل.
في تصوري أن كل سلطة أمر واقع ليست مشروع دولة، كما أن طغيان القوة لا ينتج تلقائياً شرعية. فثمة كيانات مسلحة تنشأ في قلب الفراغ السياسي لا لكي تملأه، بل لكي تعيد إنتاجه بوصفه شرطاً لبقائها. هذا هو بالضبط جوهر الحالة الحوثية، إذ لا تنتمي هذه الميليشيات في بنيتها العميقة إلى مشروع الدولة بل إلى نقيضها، إلى سلطة الطائفة لا سلطة المؤسسة، وإلى هندسة الفوضى لا انتظام القانون.
وعليه، لا يكون العنف عرضاً طارئاً أو عادياً، بل هو في اعتقادي اللغة الوحيدة المفهومة، ولا تكون الدولة هدفاً نهائياً، بل قناعاً موقتاً لشرعنة الغنيمة.
إن الحوثية المنقلبة على الدولة بقوة السلاح لا تمثل مجرد خروج عن النظام الجمهوري، بل تفكيكاً مقصوداً له، وإعادة تعريف لوظيفة الدولة كأداة جباية لمصلحة نخبة طائفية تعمل على مأسسة امتيازها على حساب الشعب.
وفي هذا السياق، لا يمكن فصل الوقائع المالية والإدارية عن هذا التصور الكلي، إذ تظهر بيانات لجنة الخبراء التابعة لمجلس الأمن الدولي أن الحوثيين جنوا -على سبيل المثال- خلال عام 2023 وحده ما يقارب 3.392 تريليون ريال يمني من رسوم غير قانونية تفرض على التجار باسم الجمارك والضرائب. وتعامل الجماعة المناطق التي تحتلها كأنها كيان مستقل خارج الدولة اليمنية، لكنها في الوقت ذاته، لا تلتزم بأي من الالتزامات السيادية تجاه المواطنين. ووفق معادلة بسيطة، فإن هذه الإيرادات تساوي ثلاثة أضعاف فاتورة الرواتب السنوية لجميع موظفي الدولة في عام 2014، أي إن الجماعة، من الناحية المحاسبية الصرفة، قادرة على دفع رواتب ثلاثة أعوام كاملة، لكنها لا تدفع شيئاً. الفائض لا يصرف على التعليم أو الصحة، بل يوظف لتقوية الجهاز القمعي وشراء الولاءات وتمويل الحروب، وإعادة إنتاج سلطة الأقلية بصيغة النصر الإلهي المزعوم.
ولا تقف البنية عند حد الجباية، بل تتجاوزه إلى إعادة هيكلة المجال العام كله على أسس سلالية. فرض "الخمس" بنسبة 20 في المئة من الموارد والأنشطة الاقتصادية لمصلحة الهاشميين بموجب مرسوم وقعه مهدي المشاط لا يعد مجرد انحراف تشريعي، بل هو في اعتقادي تكريس لرؤية ترى في النسب امتيازاً سياسياً واقتصادياً. بهذه الطريقة، تتحول الثروة من كونها ملكاً عاماً إلى ميراث طائفي، ويعاد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة عبر معيار الدم، لا المواطنة.
إن الأمر في تصوري لا يتعلق بإعادة تفسير الشريعة، بل بإعادة هندسة الاقتصاد على نحو يخرج المجتمع من معادلة التوزيع العادل، ويبقيه رهينة لمعادلة الامتياز العصبوي.
ولأن الدولة المدنية تقوم على مبدأ تكافؤ الفرص، تصبح هذه البنية الطائفية ضدها من الأساس، لا من التفاصيل. فهي لا تؤمن بفكرة المواطن الحر بل تعتبره تابعاً وظيفياً لمشروعها التعبوي، ملزماً الصمت أو المشاركة. ويكفي التوقف أمام ما يجري في محافظة إب، حيث فرضت الميليشيات الحوثية جبايات جديدة على التجار تحت تسميات دعم أسر القتلى أو صندوق التعليم، لتتضح معالم التوحش المالي في أبسط ملامحه. وتقدر هذه الجبايات بأنها تفوق الضرائب المعتادة بثلاثة أضعاف، ومع ذلك لا تصرف على التعليم ولا تسلم كرواتب للمعلمين، بل إن أولئك الذين يطالبون برواتبهم، كما فعل أبو زيد الكميم على سبيل المثال، يُعتقلون لا لشيء إلا لأنهم قالوا "نحن نعلم أطفالكم، فادفعوا لنا حقنا".
ما الذي يحدث هنا؟ بالطبع ثمة وجه آخر يظهر للدولة التي تبنى على الإنكار، لا يُكافأ المعلم، بل يُسحق. لا تخصص الموازنات للمدارس بل للجبهات، ولا يدار القطاع العام بروح الخدمة بل بمنطق الإخضاع. حتى المساعدات الدولية، العينية منها والنقدية، لا تدرج ضمن الموازنة لأن الجماعة لا تؤمن أصلاً بفكرة الموازنة بوصفها أداة لتوزيع الموارد بعدالة، إنها ببساطة شديدة تنظر إليها كآلية تعطل الاستحواذ الحر. القانون المالي رقم ثمانية لعام 1990 وتعديلاته، بما يتضمنه من إلزام بإدراج كل الموارد، لا قيمة له في منظومة سلالية تعيد تعريف القانون كله باعتباره "قيداً على الولاية".
ويضاف إلى ذلك ما كشفته الوثائق عن غسل ما لا يقل عن 1.039 تريليون ريال يمني من أرباح البنك المركزي –فرع صنعاء– في عام 2019، وهي أرباح كان ينبغي أن تستخدم في دفع الرواتب وتوفير الخدمات الأساس.
لقد حولت هذه الأموال مباشرة إلى تمويل الحرب وإثراء القيادات وتثبيت بنية السيطرة. ولا يستثنى من ذلك قطاع الطيران المدني،
إذ تجبر شركات الطيران على دفع رسوم عبور للمجال الجوي اليمني تصل إلى أكثر من 32 مليون دولار سنوياً، تحت التهديد غير المعلن بتعطيل الملاحة أو تنفيذ هجمات. إن الجماعة تحول كل منفذ وكل قطاع إلى منجم خاص، وتدير الاقتصاد بمنطق "المصادرة الثورية" لا بمنطق إدارة الدولة.
وعليه، فإن تأخير استعادة الدولة لا يعد مجرد إطالة لأمد الحرب، بل هو في تصوري إطالة لأمد إعادة تشكيل اليمن على صورة جماعة لا ترى في هذا البلد -المغلوب على أمره- سوى حقل تجريب دائم.
إن استمرار الميليشيات الحوثية في السيطرة على مفاصل الحياة الاقتصادية والإدارية والثقافية في المناطق الواقعة تحت سيطرتها يعني شيئاً واحداً، أن المستقبل يصادر كما صودر الحاضر، وأن كل جيل جديد سيولد وهو مؤطر بوعي الغنيمة لا وعي المواطنة، بسلطة النسب لا سلطة القانون، بمدرسة مغلقة ومستشفى مهمل، وسماء تدار بالعنف لا بالملاحة.
إن كل حديث عن حل سياسي مع جماعة كهذه لا يمثل سذاجة فكرية فحسب، بل هو في اعتقادي تواطؤ ضمني مع استدامة النفي. فالحوثية لا يمكن أن تتحول إلى شريك في صناعة الدولة، لأنها من الأساس لا ترى نفسها داخل هذه الصناعة بل فوقها.
هي لا تؤمن بالتعدد ولا بالتداول ولا بالمساواة، بل تحتقرها جميعاً. لذا، فإن الخلاص ليس ممكناً إلا بإعادة الاعتبار لفكرة الدولة كحق لا كتنازل، وكقيمة لا كسلعة، وكوطن لا كغنيمة.
وفي لحظة مفصلية كهذه يصبح التردد خيانة مؤجلة، وتغدو كل دقيقة تأخير رصاصة تعد لجسد الوطن. إن إنقاذ اليمن لا يمكن أن يكون بالتفاوض مع نفيه، بل باستعادة معناه الكامل، دولة لكل مواطنيها، لا سلطة لفئة تحكم باسم الله وتنهب باسم السلالة وتقتل باسم الطهر، وتبني مجدها على أنقاض الحقيقة.
سامي الكاف
صحافي وكاتب يمني