
التفاهة… العربي والقابلية للإضحاك
في ظل وضع عربي مهترئ، تتعالق الأزمة مع دواخل العربي المنهزم نفسيا وحضاريا، ذلك إنّ الهزيمة النفسية تُستتبع بالضرورة بالهزيمة الحضارية، لأنّ «القابلية للاستحمار»، في مزج بين تعبيري مالك بن نبي وعلي شريعتي، تتوفر على إمكانية الضّحك على الذات العربية، في انهزاميتها أمام الآخر الذي لا يمتلك شيئا سوى قدرته على الضّحك في مشهد «العرائسية» guignol العربي، بل إمعانه في الضّحك لأنّ العربي بوعي منه أو لاوعي يشارك الآخر في ذلك، سواء على نفسه، أو على الوضع الذي يدرك أنّه أوقع فيه مجتمعه ووضعه الوجودي برمّته، وهو بذلك يخزّن «القابلية للإضحاك».
التطبيع مع التفاهة:
لم يعد هناك شيء في الفضاء العربي يمكن أن يعوّل عليه، بعد أن أصبح الوضع السياسي والمجتمعي والثقافي مسطّحا إلى الدرجة التي يُبرّر فيها الفعل المُخلُّ بالإنسانية وبالكرامة، وأي شيء أكبر من أن نرى بأمّ أعيننا غزّة تدك وتباد، والفلسطيني يستغيث قوميا، ولكن لا حياة لمن تنادي، بل هناك مَن مِن بني الجِلدة يُعين الظالم الصّهيوني على الإمعان في التنكيل بالفلسطيني المُمجّد بالصبر، والنظر إلى السماء، بعد أن فقد الأمل في أهل الأرض.
فهل بقي في النخوة العربية عنصر يذكّرها بـ»المعتصم»، و»المعتصِمية» هنا ليست فعلا إنقاذيا وحسب، بل هي نظام للإحساس ينتقل عبره المساس بالكرامة العربية في عموم راهنية اللحظة العربية في تجلّ واضح، يعكس مفهوم الأمّة الواحدة، أو الجسد العربي الناطق تاريخيا بالمجد البدوي في أعلى صور النّخوة، إذ لمّا تصرخ ذات مستغيثة، معنى ذلك أنّ البنية الكينونية معطلة إلى أن يستجاب للصّرخة، بما يمليه الضمير القومي الذي يعني التاريخ واللغة والدين والمصير المشترك،
ولكن هي الحسرة تأكل ما تبقى من عقل يقودنا نحو التفكير في بقايا جسد يبدو مهترئا، وبقايا ذات تصرخ ولا مجيب، هو وضع يوصلنا إلى التفاهة بمنظور آلان دونو في كتابه نظام التفاهة: «فإنّ نظام التفاهة هذا إنّما يؤسّس لوسط لا يعود فيه المعتاد هو محض توليف يسمح لنا بالوقوف على كنه الأمور، بل يصبح هو المعيار الذي نُضطر للخضوع له».
إنّنا في مرحلة «التطبيع» مع «نظام التفاهة»، مع ما يحدث ويوجعنا في القلب، لكن الواقع أصبح بليدا إلى درجة أنّ الدم المراق لم يعد له مفهوم السّفك، بل أصبح مجرّد لون يحتاجه الواقع كي يستكمل دورته اللونية، فجريان أنهار الدماء في غزّة، لا يعني شيئا، ما دام الصهيو- يهودي يصول ويجول في فضاءات عربية كعنصر مرحّب به، وفي ظلّ هذه المتلازمة يصبح اللاعادي عاديا بكل المقاييس،
إلا تلك التي تحتكم إلى بقايا توهج إنساني حائر في تحديد انتمائه لما يصطلح عليه بـ»الإحساس الإنساني». أي تفاهة أكبر من هذه، حين يورّط الإنسان مفهوم الإنسانية في إجرامه الجاني على الإنسان، باعتباره الروح التي تمنح الأرض المعنى في أن تعاش وتستمر في الكينونة.
المغلوب في حضن الغالب:
إنّ الزيارة الأخيرة لترامب تكشف مدى هشاشة الشّخصية العربية في راهنها الخاضع للمادة، أو عالم الأشياء بتعبير مالك بن نبي، في إهمال واضح لعالمي الأفكار والأشخاص، لا يتعلق الأمر فقط بما أبداه البعض في انهماك فاضح في الرضوخ لرغبة الأقوى، حيث بدا ترامب وكأنه يزور مزرعة لا يهتم بها لأنّه يعلم يقينا أنّ زراعتها مُنجَزة وأنّ خراجها يصله. وفي وضع كهذا فإنّ المشهد لا يعبّر عن رؤية في نسج العلاقة مع الولايات المتحدة، بقدر ما يكشف رغبة في تأكيد الولاء، لأجل هدف وحيد وهو حماية أشخاص سلطة مهيمنة.
إنّ علاقة العرب مع الغرب تقوم في جوهرها على هذا الانبطاح القائم على من يقدّم تنازلات أكثر لـ»الغالب»، فـ»المغلوب مولع أبدا بتقليد الغالب»، كما يذهب إلى ذلك ابن خلدون، فالتقليد هنا ليس فقط سلوكيا، لأنّ النمط الحضاري المهيمن في «غالبيته» تلك، إنّما يعرض/يفرض نموذجه الخاص المؤطّر بالقوة، ولذلك أكد محمد إقبال، أنّ الدين دون قوة محض فلسفة، فالتعبير الأقوى كان في ذلك التهليل للزيارة، مع علم المَزُورِين يقينا أنّهم سيدفعون للزّائر، بل سيخضعون لكل ما يبدر منه، وخصوصا وهو الشخصية الأكثر تهورا وتلذّذا بازدراء الآخر،
فطبيعة المعاملة التجارية تتطلب المفاصلة في السعر، وتحقيق هامش الربح الأكبر والتحكم في الزبون، وترامب ذو منشأ تجاري، ولا يتقن سوى التفاوض التجاري، وما دام الزبون ليس غربيا أزرق العينين، ويتطلب نوعا من التعامل اللبق والحذر، إلا أن لآخر مطواع بطبيعته وقابل لكل الانتهاكات والاختراقات لأنّه في عمقه زُرعت بذرة الانهزام، ويترتب على ذلك كل ما تذيعه شاشات العالم من مشاهد التبعية والخضوع للأقوى، بل مسايرته في الضّحك على الذات المنهزمة.
إنّ المجتمع العربي في سيرورته التاريخية مرّ بمراحل حضارية، أدّت في النهاية إلى خروجه من التاريخ، ربّما ليس لأنّه «أمة تراثية» بتعبير الجابري، أي إنّه يعيش حاضره، وفق أجندة ماضوية، ولكن لأنّه اعتبر كينونته داخل منظومة الحضارة قائمة على «المباهج» بعيدا عن «المناهج»، أي إنّ التكوين السياسي بُني على ثقافة الاستحواذ على السلطة وتبني مبهجة الملك العضوض خارج التشاركية السياسية والتداول «التشاوري» (الديمقراطي) المبني على اختيار من يحكم الأمة ومن يمثلها.
القطيع والقاصر الرّاشد:
خارج إطار التشاورية السياسية تأسّست فكرة «القطيع»، بمعنى الانقياد لرغبة من يقود، وتَشَكّل في خلال ذلك ما يمكن تسميته بـ»ظل الأب»، حيث يصبح الإبن قاصرا حتى بعد رشده (الاجتماعي والسياسي)، بما يجعل خطر البحث الدائم عن أبٍ قائما، هكذا تشكل مخيال الزعيم في الواقع السياسي العربي، إذ هرمية النظام السياسي تصبح شبيهة بنظام هرمية بنية المشيخة الصوفية، فالذات أمام شيخها لا تصلح لشيء سوى للسّمع والطاعة، أي العطالة الكلية، لأنّ الأمر مقضية حاجته في حضور الذات الغارقة في قداستها.
لعل مفصل القداسة هذا، هو ما يفسّر استقبال الآخر الأشقر بديكور تراثي، بمعنى من المعاني استعادة المبهجة الماضوية في اللحظة الراهنة المفعمة ببهجة لقاء «الغالب»، واللحظتان لا تكشفان عن أي تنافر أو تصادم لأنّ المشاعر النّهضوية النّافرة نحو التحرّر من قيد التبعية للآخر، تلفّعت بالبلادة الحضارية والخروج من التاريخ، العكس من ذلك، أنّ اللقاء يكشف مدى ارتهان حتى اللحظة التراثية للآخر الذي يبحث فقط في مزرعته العربية عن التنفيس والنقاهة والاسترخاء،
وإلا كيف نفسّر الزّحمة الأنثوية غير المكترثة بأصالة الذّات العربية، وهي تقدّم جسدها الراقص تحت نشوة العرض، معلنة أنّ الرأس لا يشكل آلة للتفكير، بل يقُدّم بوصفه وضعا للغيبوبة الحضارية في تاريخية الرّاهن. وكذلك الرقص على الإيقاع التراثي في ظل سيف الأنفة التي تغنّت بها عِزّة عنترة في إيقاعية قتالية مفتخرة:
ولقد أظل على الطوى وأبيته/حتى أنال به كريم المأكل. إقحام السّيف عنصر العزّة والقوة والغلبة في عرضٍ هجينٍ المرادُ منه إرضاء رغبة الغالب في التنفيس والضحك، يثير الشّفقة على وضع عربي آل إلى حواف الانهيار، إن لم يكن قد انهار فعلا، معلنا بذلك أنّ ما يمكنه أن يشكل خطرا على الغالب هو في حكم اللافعالية الوظيفية.
عبدالحفيظ بن جلولي
كاتب جزائري