
إسرائيل إلى حرب إقليمية
بمسح سريع للنزاعات الدائرة في المنطقة، والمشكلات التي تضربها في غير مكان، يلوح في الأفق غبارُ حرب إقليمية. في ليبيا، الموقف الميداني مجمّد على خلفية توازن جيوستراتيجي، بين دعم تركي لحكومة الوفاق وقوى غرب ليبيا، في مقابل دعم مصري إماراتي لخليفة حفتر. وتحريك ذلك الملفّ سلماً أو حرباً مشروط بتطوّر ملفّات النزاعات الأخرى في المنطقة.
وفي سورية، لا تزال نيّات الرئيس أحمد الشرع، ومن ورائه هيئة تحرير الشام، غير واضحة، فرغم رسائل الطمأنة التي يبثّها للأطراف كلّها، بما فيها إسرائيل، إلا أن خلفيته الإسلامية المتشدّدة تظلّ حاضرةً في الأذهان، فضلاً عن ارتباطه العضوي بتركيا.
والنتيجة، تعدّد توجّهات سورية الجديدة وغموضها إزاء أي نزاع مسلّح ينشب في المنطقة.
أمّا العامل الإيراني، فهو قاسم مشترك في ملفّات المنطقة وقضاياها كاملةً، من اليمن والبحر الأحمر جنوباً إلى العراق ولبنان شمالاً، وفي القلب بينهما الخليج وغزّة.
ورغم بوادر التوصّل إلى اتفاق في المفاوضات النووية بين طهران وواشنطن، سيظلّ أيُّ تفاهم بينهما محصوراً في النطاق النووي. وبالتالي ستعود طهران مطلقةَ اليد في المنطقة، وتحديداً الدول العربية، وستكون المواجهة بينها وبين إسرائيل محتملةً بقوّة، ومفتوحة الجبهات.
ويبقى الملفّ الرئيس في أزمات المنطقة، وعدم استقرارها منذ عقود، الملفّ الفلسطيني، إذ تظنّ إسرائيل أنها حظيت من التمكين والتمكّن بما يكفل بناء دولتها التوراتية، وإخضاع المنطقة بأكملها.
وليست الممارسات الوحشية بحقّ المدنيين الفلسطينيين في غزّة سوى إعلان تدشين "إسرائيل الكُبرى" عملياً.
ولا تعير تلّ أبيب اهتماماً لأيّ موقف لا يجاري سياساتها، فتمضي قدماً في تدمير قطاع غزّة وزحزحة شعبه جنوباً نحو الحدود المصرية، وتعيث في الضفّة قتلاً واستيطاناً، وتعطّل دخول وزراء خارجية إلى الضفة للقاء محمود عبّاس.
تحشر إسرائيل العرب في الزاوية، كأنّها تُخيّرهم بين مُرَّين: إمّا خوض غمار حرب مصيرية معها، وإمّا تصفية القضية الفلسطينية بشكل كامل ونهائي، والاستسلام لمخطّطاتها الإقليمية.
قد تقبل بعض الدول العربية الخيار الثاني، بل وترحّب به، إلا أن الرفض الفلسطيني سيكون قاطعاً وحاسماً في إفشاله وتوجيه بوصلة الصراع نحو خيار الحسم،
وهنا ستظهر سريعاً الارتباطات العضوية بين الملفّات ومصالح أطرافها وحساباتهم؛ فتهجير فلسطينيي الضفة يعني خطراً وجودياً على الأردن، ودفع فلسطينيي غزّة جنوباً يضع مصر في مأزق خطير، بين استقبال المُهَجَّرين، أو مواجهة إسرائيل، بل حتى في حال استقبالهم فالمواجهة آتية لاحقاً، إذ ستكون القاهرة مسؤولةً عن أيّ تهديد من نقاط وجودهم تجاه إسرائيل.
ولن تقتصر المواجهة على مصر أو الأردن أو كليهما، سيكون ثمّة موقف مهمّ، وربّما مُرجّح لبقية الدول العربية وإيران وتركيا. سيذعن بعضهم، أو ربّما الأكثرية، لكن ليس كلّهم بالتأكيد.
بل إن تحليلاً أنثروبولوجياً بسيطاً يكفي لمعرفة أن شعوب دول قوية في المنطقة (قبل حكوماتها) ستهرع إلى الوقوف معاً عند الضرورة.
فلدى العقل الجمعي والدولة العميقة في أمثال كلّ من مصر وتركيا والجزائر ولبنان والسودان والعراق واليمن، قناعة راسخة بأن الصراع مع إسرائيل حول الوجود، لا الحدود. كذلك فإن العقيدة العسكرية لجيوش غالبية تلك الدول، تعتبر إسرائيل العدو الرئيس.
بالتالي، ومن منظور استراتيجي، في فرض إسرائيل سيطرتها على المنطقة وتصفية القضية الفلسطينية، تهديد حيوي مباشر لدول المنطقة جميعاً. لكن، ربّما كان ذلك التهديد أشدّ وضوحاً وتجسّداً أمام العقل الاستراتيجي في الدول المشار إليها، أكثر من غيرها.
ومن شأن سلوك إسرائيل التوسّعي، ورعاية واشنطن له، أن يحيي اصطفافاً إقليمياً يجمع بين مقوّمات حضارية ومحفّزات براغماتية معاً. ولا يبقى سوى معرفة توقيت تلك الحرب الإقليمية التي ستكون نتيجةً مباشرةً لغرور تلّ أبيب وانفلاتها.
سامح راشد
باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية