
"إدراك العالم" .. صورة الآخر في الوعي العربي والغربي
لا تقف حدود التجاذبات السياسية والإعلامية في الغرب حول الإسلاموفوبيا عند سعي تيارات يمينية إلى إقصاء المسلمين واعتبارهم عبئاً على مجتمعاتهم، أو عند الاختلاف حول تعريف محدّد لها قد يفضي إلى انتهاكات لحرية الرأي والتعبير.
جدلٌ يتصاعد في أكثر من بلد أوروبي خلال الأشهر الماضية، ولا يغيب عنه أيضاً التاريخ الذي لا يزال يُنتج مقولات مسبقة تختزل العلاقة بين الإسلام والغرب على مدار مئات السنين.
وربما تبدو العودة إلى الماضي مُلحّة في ظل مراجعات لا تنتهي لهذه الصلات المتوترة والمضطربة، ومنها كتاب "إدراك العالم..
الصور النمطية المُتبادَلة بين الأنا والآخر" (الآن ناشرون وموزعون، عمّان، 2025) للباحث الأردني زهير توفيق، الذي يقرأ لحظة دخول العرب إلى بلاد الشام في النصف الأول من القرن السابع الميلادي،
متتبعاً نماذج مؤسسة عديدة في المدونة التاريخية والفقهية والأدبية عند المسلمين والبيزنطيين والأوروبيين، وكذلك الفرس واليهود.
مطابقة العهد القديم
نظرت الدولة البيزنطية وكنيستها إلى كارثة انتزاع الجزء الأكبر من أراضيها على يد المسلمين، بحسب الكتاب، بما يطابق المخيال الديني المستمدّ من العهد القديم عن شعوب الشرق والبدو (السراسين) وأحفاد سام، الذين غزوا أملاك المسيحية.
وبذلك أدّى الإسلام والمسلمون، في هذه السردية، دوراً وظيفياً كونهم أداة في يد الرب أُرسلوا لعقاب المسيحيين الصالحين بجريرة الأشرار منهم على آثامهم والانحرافات العقائدية، والخلافات حول طبيعة المسيح.
ارتبط تنميط المسلمين منذ البداية بهذه الخلافات اللاهوتية، كما يُبيّنه موقف يوحنا الدمشقي، الذي عاش في البلاط الأموي حيث عمل والده وجده وزيرين فيه، والذي اعتبر الإسلام "ليس إلا ضرباً من ضروب الانشقاق عن العقيدة المسيحية الحقة".
وتراكمت نصوص وشروحات لإثبات هذا التصوّر الذي توارثه رجال الدين، حتى ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، فظهرت تفسيرات عقلانية جديدة تعزو انتصار المسلمين إلى كونهم أكثر تطوراً وتجهيزاً، وأصحاب فضائل وحضارة، كما يُبين المؤلف.
وعلى امتداد نحو خمسمئة عام، شهدت الدولتان الإسلامية والبيزنطية سلسلة من الحروب تخلّلتها مهادنات وتسويات، تبادلتا خلالها السفارات والزيارات.
غير أن المتغيّر الأبرز في علاقة الجارين تمثّل في الحملات الصليبية على المشرق، التي احتفى بها البيزنطيون ورأوا في حملاتها الثلاث الأولى فرصة لتحالف مع الممالك المسيحية الغربية بعد طول نزاع، حتى دخلت الحملة الصليبية الرابعة مدينة القسطنطينية، فنهبتها ودمّرتها، وقتل جنودها إخوتهم في الصليب.
ويشير الكتاب إلى أن تلك الأحداث مهّدت لتفاهمات أوسع بين المسلمين والبيزنطيين وصولاً إلى القرن الثالث عشر الميلادي، ساهم في إرسائها انقسام الخلافة إلى دويلات متعددة، واختلاط السكّان من مختلف الأديان في الكيانات السلجوقية الناشئة،
كما هو الحال في القسطنطينية التي بُني فيها مسجد، وأُقيم حوله حيّ سكنه العرب والأتراك.
لكن سقوط بيزنطة بعد نحو قرن بانتصار العثمانيين أعاد نسج تفسير غيبي حول عقاب إلهي على خطايا المسيحيين، وانتظار المخلّص الذي سيقضي على الغزاة يوماً ما، وهو ما تسرّب إلى أذهان اليونانيين.
صورة كلية مفارقة للواقع
مقابل تلك التصورات السابقة، تشكّلت لدى العرب المسلمين معرفة ناقصة حول عدوهم البيزنطي، استندت إلى إعجابهم بنظام إدارته وصموده الذي حال دون هزيمة مطلقة تماثل انهيار فارس، وعلومه التي ورثها عن أجداده اليونان.
كما لم يشتبك العقل العربي ولا مخياله، عند المواجهة الأولى، بدين بيزنطة، على اعتبار أن الكتاب المقدس ظلّ مصدراً معترفاً به إسلامياً، رغم الاعتقاد بتحريفه أو سوء تفسيره.
وبذلك طغى "السياسي على الديني، والعسكري على الثقافي المعرفي"، وفقاً للكتاب الذي يلفت إلى أن الرحالة المسلمين مثل المسعودي وابن خرداذبه والقزويني قدّموا في مؤلفاتهم أوصافاً غير دقيقة حول رحلاتهم إلى أرض الروم آنذاك،
بالتركيز على الطبيعة والمعمار وتناسي الإنسان وحركته اليومية.
ويلاحظ القارئ أن الانتصارات التي حققها المسلمون على خصم قوي، عزّزت الإحساس بمركزية الأنا والذات في فهم الآخر، وهو ما دعّمه النص القرآني بقوله: "كنتم خير أمة أُخرجت للناس".
وفي مرحلة لاحقة، طوّر المسلمون معارفهم بالاطلاع على الفلسفة اليونانية، ما مكّنهم من استخدام الحجج والاستدلالات نفسها في الرد على اللاهوت المسيحي.
وبذلك، لم ينجُ الجاران، المسلم والبيزنطي، من عقدة الجهل بالآخر، التي منعت تقريب وجهات النظر والتوافق على مصالح وقيم مشتركة.
شرق وغرب
خلافاً للإمبراطورية الرومانية الشرقية، تأخر الغرب الأوروبي في التعرف على الإسلام، نتيجة عوامل مختلفة، أبرزها قلّة عدد الحجاج الغربيين إلى القدس لطول المسافة وتكلفتها العالية، واحتياج قوافلهم للحراسة.
كما شكّل حاجز اللغة عائقاً كبيراً حتى القرون الوسطى، بالإضافة إلى أن المسيحية نفسها كانت ديناً مستحدثاً لمعظم مناطق أوروبا، ما منحها مزيداً من التعصب في ظل الفقر المعرفي وانتشار السحر والشعوذة.
ويوضّح الكتاب أن الغرب شكّل صوراً نمطية بالغة التبسيط والتعقيد لمفردات الإسلام، في ثقافة شعبية شفهية لجأت إلى الفانتازيا وخلط الخيال بالواقع.
وقد وظّفتها الكنيسة بخطاب ورسومات ومنحوتات كرّست الغيرية، بوصم المسلم بالشر المطلق وتصوير بطولات وانتصارات حاسمة عليه.
وتراكمت على هذه الصور ثقافة لاهوتية عادت إلى مرافعة يوحنا الدمشقي وطروحات عبد المسيح بن إسحق الكندي، لكنها اكتسبت قدراً من الموضوعية في نهاية العصور الوسطى.
وكانت محطة أساسية في هذا التحول هي تفشّي الطاعون في أوروبا منتصف القرن الرابع عشر، حيث انفتح الغرب على علوم المسلمين، وخاصة الطب.
وبدا أن النخب السياسية في عصر النهضة أكثر واقعية من البابوات وقادة الحروب الصليبية الذين هُزموا في خاتمتها.
ومع الكشوفات الجغرافية، تراجعت أهمية الشرق في المخيال الأوروبي، الذي بات يرى الآخر في الهنود والأفارقة وسكان الأميركتين، وسط إحساس متزايد بتفوّق الذات مع التقدم العلمي.
ينبّه الكتاب إلى أن ظهور الاستشراق، الذي تأسس على تطور مناهج العلوم الإنسانية، عمّق معرفة الغرب بالشرق، وسعيه لاستعماره تحت شعار إنقاذه وتحديثه.
بينما أدّى تدهور الحضارة الإسلامية إلى تعميق الآخرية على مستوى الداخل والخارج، وهو ما تدل عليه نصوص الرحّالة المسلمين، العثمانيين والمغاربة، التي كُتبت خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر،
وتعكس ضحالة معرفتهم بأوروبا. وصولاً إلى عصر النهضة العربية، وانقسام نخبة الشرق بين ليبراليين وتوفيقيين وسلفيين، حيث كانت الخلاصة الأبرز أن العالم العربي لم يتعرّف على ذاته إلا من خلال الغرب، وليس بأدواته المنهجية المستقلة.
عرب وعجم
من جهة أخرى، تشكّلت الصور النمطية بين العرب والفرس على نحو مختلف تماماً عن السياق الذي حكم العلاقة مع المسيحية والغرب، وذلك بسبب سقوط الدولة الساسانية واعتناق فارس الإسلام، مع اعتبارهم أدنى مرتبة اجتماعية في العهد الأموي.
وحتى بعد تحسّن أوضاعهم زمن العباسيين، حيث تولى الفرس مناصب عليا في الدولة، تبقى العلاقة مثقلة بالمفارقات، كما في قصة زواج جعفر البرمكي الشكلي بأخت هارون الرشيد، العبّاسة، مع اشتراط عدم الخلوة الشرعية.
النظرة المتبادلة بين الطرفين حملت مقاربتها الخاصة، إذ يُشير الكتاب إلى أن العرب المنتصرين فُرض عليهم تقليد الفرس المغلوبين في الإدارة والحكم،
ما ولّد معادلة عنصرية، ظهرت تمثلاتها في النصوص الفارسية من أشعار وأدب رحلات وكتب السياسة، التي ركزت على المواقف السلبية تجاه العرب، وازدرائهم فردة فعل على ما تعرضوا له من اضطهاد.
معرفة اليهودي
ينطلق توفيق من فكرة أن العرب المسلمين لم يستشعروا خطورة وجود اليهود، ولم يلتفتوا كثيراً إلى لاهوتهم، نظراً لانقطاعهم عن الجهات الخارجية.
لذا، كانت العلاقة أقرب إلى الاستقرار، رغم الصورة السلبية التي انطبعت في بدايات الدعوة الإسلامية وفي عهد الخلفاء الراشدين.
إلا أن حضورهم ازداد لاحقاً في ميادين التجارة والترجمة والطب، في الدولة العباسية والأندلس والعهدين الفاطمي والعثماني، مع وجود فترات تراجعت فيها أوضاعهم.
وهكذا، يفنّد الكتاب الصورة النمطية السائدة حول اليهود، مبيناً أن التفاعل معهم أو إقصاءهم كان غالباً يخضع لشروط موضوعية يفرضها الواقع.
محمود منير
صحافي من الأردن.