
روايات الرّعب العربية.. موروث منسي وخيال مستورد
لا تكاد تخلو قوائم الإصدارات الروائية العربية الأسبوعية من خبر أو اثنين عن روايات يمكن تصنيفها ضمن أدب الرعب.
ويبدو أن هناك ما يشبه الانفجار في سوق النشر العربي تجاه هذا النوع الأدبي، مدفوعاً برغبة القراء في استكشاف المجهول، وانفتاح دور النشر على التجارب الجديدة.
لكن هذه الطفرة، رغم حضورها اللافت، تثير سلسلة من الأسئلة تتجاوز خصائص النصوص وأسلوب كُتّابها، لتتعمق في منطق استخدام العناصر المرعبة، والمزاج الثقافي والنفسي الذي تُكتب فيه، ومدى صلتها بسياقاتها الاجتماعية وخصوصياتها المحلية.
ورغم أنه لا يمكن الادعاء بأن أدب الرعب وافد جديد تماماً على الثقافة العربية، فإن النظرة إليه لا تزال تُصنّفه نوعا "مستحدثا" أو "طارئا"، خاصة أنّ تاريخه المطبوع لا يتجاوز بضعة عقود.
فقد مهّد كُتّاب مصريون مثل يوسف السباعي، وأنيس منصور، وإبراهيم أسعد، وخليل حنا تادرس، لبدايات متردّدة لهذا اللون السردي.
ثم جاءت أعمال الراحل أحمد خالد توفيق، وحسن الجندي، وجلال عبد الفتاح، ونبيل فاروق، ورؤوف وصفي، لتُفجّر طاقة سردية جديدة تواكبت مع صعود الإنترنت وانتشار المنتديات، مما أتاح للتجارب اللاحقة مساحة واسعة للانتشار والتداول، حتى باتت أسماء كُتّاب الرعب أكثر من أن تُحصى.
ومع ذلك، لا تزال العلاقة بين هذا النوع الأدبي وبيئته الثقافية العربية محاطة بالتوتر والغموض.
إذ لم يحظَ هذا الأدب حتى الآن بقبول واضح من جانب النخب الأدبية والمؤسسات النقدية، ولا يظهر على قوائم الجوائز الأدبية المرموقة، رغم أن بعض أعماله تُعاد طباعتها مراراً، وتُنتج منها سلاسل طويلة تُقابل بترحيب جماهيري لافت.
كما أن نجاحه التجاري اللافت لم يشفع له بالعبور إلى شاشات السينما والتلفزيون، أو إلى منصات الصوت والصورة، كما هو الحال في التجارب الغربية، ما يشير إلى نوع من العزلة الجمالية، أو ربما أزمة في تمثيله بصرياً.
وما يزيد من إلحاحية النقاش، أن النقاد لم يولوا هذا الأدب الاهتمام الكافي عبر دراسات معمّقة تُقارب تحوّلاته ومحتواه.
فما يُكتب عنه غالباً ما يدور حول انتشاره وشعبيته، وكأن الرواج كافٍ لتبرير القيمة، في حين أن المعيار الأهم لأي أدب يبقى في بنيته الفنية، وبراعته في التعبير، وعمقه في الرمز والدلالة.
فالجمهور قد ينجذب لأعمال لأسباب تتعلّق بالتسويق، أو بدافع الحنين، أو من باب التماهي مع الموضات الثقافية السائدة، دون أن تكون هذه العوامل دليلاً على نضج فني أو عمق سردي.
رغم ذلك، لا يمكن تجاهل أن جمهور هذا الأدب بات أوسع وأكثر تنوعاً، ويبدو أنه يبحث عن مهرب سردي من الواقع، نحو عوالم متخيلة تستعير مفرداتها من موروث عالمي مألوف، مليء بالرموز والمخلوقات التي تتكرر في السينما والأدب الغربيين.
وفي هذا السياق، تصبح رواية الرعب وسيلة لتفريغ القلق الجمعي، وتجديد الأدب بعيداً عن القوالب التقليدية، لكنها – في المقابل – تبدو وكأنها تُفصَّل لتناسب أذواق جمهور متوقَّع سلفاً، أكثر من كونها نابعة من ضرورات فنية محلية أو حساسية ثقافية مغايرة.
تأمّل البنى السردية لهذه الروايات، وموتيفاتها، وشخصياتها، والعلاقات المتشابكة فيها، يكشف عن غياب ملموس للمحلي، أو على الأقل عدم استثماره بشكل جاد ومتقن.
فغالباً ما تغيب الإحالات إلى الحكاية الشعبية، والأساطير المحلية، والمعتقدات المتوارثة، ما يجعل كثيراً من هذه الأعمال وكأنها مقاطع مترجمة عن نماذج غربية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل عجز كُتّاب هذا النوع عن التنقيب في تراثهم وحكايات أجدادهم بحثاً عن مادة حقيقية للرعب؟
وهل جفّ الخيال الشعبي إلى هذا الحد، أم أن المشكلة في أدوات القراءة والتأويل؟
الواقع أن التراث العربي، سواء في مدوناته الرسمية أو في حكاياته الشفوية، مليء بالكائنات الغرائبية والشخصيات المفزعة، التي تُجسّد "الرعب" في صور متنوّعة.
فإلى جانب الشذرات التي تظهر في كتب الأدب والدين واللغة، كانت الحكاية الشعبية هي الحقل الأخصب الذي عبّر فيه الخيال الجمعي عن مخاوفه، وأسقط فيه أزماته وتصوراته.
ويمكن للراوي الشعبي، وهو يجول بين البلاد، أن يستحضر شخصيات لا تزال حية في ذاكرة الأجيال:
من الغول والسعلاة والنسناس، إلى الجن والعفاريت وأبو رجل مسلوخة والنداهة والطنطل وأم الدويس والبُعاتي والخضرة... وهي كائنات لم تكن يومًا مجرد أدوات تخويف، بل رموز مركّبة تختزن دلالات اجتماعية ونفسية وثقافية.
وإذا أجرينا مقارنة بين عناصر الرعب في الفولكلور العربي ونظيرها الغربي، سنجد تشابهات لافتة. فالنداهة، مثلًا، تُقابلها في الغرب حوريات البحر أو السيرينات اللواتي يجذبن الرجال نحو مصير مظلم.
وأم الصبيان تُشبه شخصية "ليليث" في الفلكلور اليهودي، التي تُتّهم بإيذاء الأطفال والنساء الحوامل. وأبو رجل مسلوخة له قرين في شخصية "Slender Man"، والسعلاة تجد شبيهاً في "المذؤوب"، والبعبع في "البوغي مان".
هذه التشابهات تُظهر أن الرعب، كمخيال بشري، لا يعرف حدوداً، لكنه يتشكّل محلياً وفق سياقات محددة يجب احترامها لا تجاهلها.
رغم أن بعض المحاولات أُجريت لفهرسة هذه الكائنات وتوثيق أسمائها وصفاتها، بهدف استخدامها في الأعمال المعاصرة، إلا أن أدب الرعب العربي لا يزال يستعير من "الفضاء العالمي" أكثر مما يستلهم من بيئته الخاصة.
وليس هذا بالضرورة قراراً واعياً من الكُتّاب، بل نتيجة تراكم طويل من إهمال الموروث الشعبي، وعدم تأصيله جمالياً، ما جعل الأجيال الجديدة تراه غريباً أو خرافياً في غير معنى الكلمة.
في المقابل، لعبت الميديا العالمية دوراً كبيراً في تكريس نماذج الرعب الغربية بوصفها النموذج الوحيد القابل للتداول.
ولا تكمن المشكلة في استدعاء شخصية من التراث الشعبي ضمن رواية معاصرة، بل في الكيفية التي تُستدعى بها. إذ لا يمكن التعامل مع هذه الشخصيات كمجرد أقنعة جاهزة، بل ينبغي إحياؤها ضمن سياقاتها الأصلية، بكل ما فيها من رموز وطقوس ودلالات.
وهذا ما يفتقده كثير من كُتّاب الرعب، الذين غالباً ما يُقصون الخلفيات الثقافية التي وُلدت فيها هذه الكائنات، فلا تصل إلى القارئ إلا كأشباح فاقدة للحياة.
إن إعادة الاعتبار للحكاية الشعبية لا تعني الانغلاق على الماضي، بل إعادة تأويله ودمجه في الحاضر.
ويجب أن يدرك كتّاب الرعب أن الجنّ – على سبيل المثال – يمكن التعامل معه لا كفزاعة دينية، بل ككائن رمزي معقد، تماماً كما تعامل الأدب الغربي مع مصاص الدماء أو المستذئب.
وهذا لا يتحقق من خلال عمل أو تجربة واحدة، بل يتطلب سلسلة من المحاولات المتنوعة، ورؤى متعددة، تعيد تأصيل هذا التراث وتُدخله في نسيج الأدب الحديث، لا كعنصر تزيني، بل كجزء من البنية العميقة للنص.
أدب الرعب العربي لن يُحقق تفرده ما لم يُوسّع أفقه الجمالي، ويبتكر أسئلته الخاصة، ويُعيد إنتاج عناصره المحلية برؤية فنية واعية. فالرعب ليس ترفيهًا عابرًا، بل شكل سردي قادر على مساءلة القلق الجمعي، وتحويل الخوف إلى نص قابل للتأويل والتأمل، حين يتخلّص من استنساخ الآخر ويتصالح مع ذاكرته الخاصة.
* علي سفر
كاتب من سورية