
الأندية الأدبية في السعودية.. من ذروة التأثير إلى تحديات العزلة
على مدى أكثر من خمسة عقود، شكّلت الأندية الأدبية في السعودية أحد أبرز معالم الحياة الثقافية، إذ لعبت دوراً محورياً في احتضان الإبداع، وتوفير منصات للحوار وتبادل الرؤى، بل ووقفت أحياناً كصوت مستقل أو ناقد في مواجهة الطابع الرسمي.
وأقيمت في ظلها فعاليات أدبية لامست مفاصل أساسية في علاقة الإبداع بإنتاج الأسئلة الجمالية والمعرفية، غير أن هذا الدور بدأ يخفت تدريجياً مع تصاعد الحضور الرقمي وتبدل أولويات الأجيال الجديدة، إلى جانب التراجع المؤسسي في دعم هذه الكيانات الثقافية.
بدايات راسخة
منذ تأسيسها الرسمي عام 1974، جاءت الأندية الأدبية لتسد فراغاً في البنية الثقافية السعودية، واستفادت من مرحلة التحولات التنموية والتعليمية الكبرى في البلاد.
لم يقتصر دورها على استضافة الفعاليات، بل شكّلت منابر جمعت بين مختلف التيارات الفكرية، واحتضنت نقاشات جريئة حول الشعر، السرد، والفكر.
أندية مثل جدة، والرياض، والأحساء، والطائف، وجازان، والقصيم، أطلقت برامج ومبادرات نوعية، أبرزها "ملتقى النص" و"بيت الشعر"، إلى جانب تبنّي مسابقات أدبية تُعنى بتحفيز الشباب والموهوبين في مجالات الشعر، والقصة، والرواية، والمسرح، وقد ساهم كل ما سبق في بناء ذاكرة ثقافية موثقة.
كما تبنّت النشر الأدبي عبر مجلات بارزة مثل "علامات" و"عبقر"، و"نوافذ" و"الرواي"، التي وفرت فضاءات للتعبير في وقت كانت فيه المساحات العامة مقيدة، الأمر الذي جعلها في فترة من الفترات من أبرز منابر النشر المحلي، قبل اتساع حضور دور النشر الخاصة.
امتد تأثير الأندية إلى ما هو أبعد من النشر والتنظيم، عبر ورش تدريبية طورت مهارات الشباب في الكتابة والترجمة والنقد.
وتحوّلت بعض هذه الورش إلى منصات لصناعة أجيال جديدة من الكتّاب الذين برزوا لاحقاً في المشهد الثقافي.
كما شاركت الأندية في محافل عربية، وساهمت في تعزيز حضور المثقف السعودي خارج الحدود، وبناء جسور مع مثقفي مصر، اليمن، المغرب، ولبنان. غير أن هذا الامتداد بدأ بالانكماش مع دخول الألفية الثالثة، في ظل تصاعد الرقابة وتراجع هامش الحرية.
صعود البدائل
مع تطور التكنولوجيا، حدث تحول نوعي في آليات التفاعل الثقافي، إذ لم تعد الأندية مركز الفعل الثقافي الوحيد. المنصات الرقمية والمنتديات الإلكترونية فتحت المجال أمام الجميع للنشر والتفاعل، ما كسر طابع الاحتكار والانفراد، وأتاح مساحة أوسع أمام الأفراد والمؤسسات لممارسة دورهم الثقافي بحرية،
وهذا ما أدى في المحصّلة إلى تراجع الإقبال على أنشطة الأندية، التي لم تنجح في مواكبة المتغيرات.
إلى جانب ذلك، واجهت الأندية مشكلات هيكلية داخلية، أبرزها ضعف التمويل، البيروقراطية، وغياب التجديد الإداري. طريقة اختيار مجالس إداراتها طاولها النقد أيضاً، بسبب طغيان الطابع الإداري على الثقافي، ما ساهم في تراجع ثقة المثقفين بها.
في الماضي، كانت الأندية البيت الأول لأسماء بارزة، مثل غازي القصيبي، وعبد الله الغذامي، ورجاء عالم. أما اليوم، فقد انفض كثير من الكتّاب عن هذه المؤسسات، مفضلين العمل المستقل أو التوجه إلى منصات بديلة أكثر مرونة وتفاعلاً.
رغم التراجع، لا تزال الفرصة سانحة أمام الأندية الأدبية لاستعادة حضورها، شرط أن تُعيد تعريف نفسها بما يتلاءم مع واقع اليوم. فالثقافة السعودية تشهد مرحلة غير مسبوقة من الانفتاح والتنوع، ما يفرض على الأندية أن تتحول من مجرد مقرات لندوات تقليدية إلى فضاءات بحث وتفكير وحوار حر.
الرهان الحقيقي لا يتعلق فقط بإصلاح البنية أو زيادة التمويل، بل بقدرتها على اجتذاب الجيل الجديد، وتطوير شراكاتها مع القطاع الخاص، والانخراط الفعلي في قضايا الثقافة المعاصرة، والأهم: استعادة ثقة الكتّاب والمجتمع بدورها الحيوي.
محيي الدين جرمة