أهلاً أهلاً بالعيد... كل هذا الغناء
بالرغم من المكانة التي احتلتها أغنية أم كلثوم "يا ليلة العيد"، باعتبارها العمل الغنائي الأيقوني الدال على استقبال عيد الفطر، لا تعني تلك المكانة نسيان عشرات الأغاني التي وضعت خصيصاً لهذه المناسبة. تغري المناسبات عموماً، والديني منها خصوصاً، الفنانين بتقديم عمل يصلح للبث والاستدعاء مع التكرار السنوي، وتحظى المناسبات الدينية بأفضلية على المناسبات الوطنية، لأنها لا تختص بدولة واحدة؛ فشهر رمضان وعيدا الفطر والأضحى مناسبات تهم المسلمين جميعاً، وتحتفي بها الإذاعات والتلفزات العربية كلها.
ربما يتعجب من يحاول أن يتتبع أغاني العيد، إذ سيكتشف أن عشرات المطربين والمطربات قد غنوا لهذه المناسبة، وأن بعضهم قدم أكثر من أغنية، وأحياناً أكثر من أغنيتين، وأن قائمة الأعمال التي قدمها المطربون العرب احتفاء بالعيد، أو بالأحرى ما استطاع الهواة جمعه من هذه الأعمال قد تجاوز 200 أغنية،
وأن هذه القائمة التي تتصدرها أم كلثوم بـ"يا ليلة العيد" تضم عدداً كبيراً من نجوم الطرب، في مصر وسورية ولبنان وفلسطين والأردن والعراق وبلدان الخليج العربي، وأن الغناء لتلك المناسبة مثل دائماً ميداناً للتنافس الفني تأليفاً وتلحيناً وأداءً، لأن وحدة الموضوع تكون غالباً سبباً للمقارنة.
ليس غريباً أن تكون الإذاعة المصرية صاحبة النصيب الأكبر من أغاني العيد، وبصوت عدد من أشهر نجوم الغناء. وفي مقدمة هؤلاء النجوم، يبرز اسم محمد قنديل الذي غنى من كلمات محمد إسماعيل، وألحان مرسي الحريري "أفراح العيد"، ويقول مطلعها: "بالأماني بالتهاني.. هلت الأفراح يا عيد.. عيد مبارك.. هني جارك.. هني بالعيد السعيد".
ويلعب الكورال في هذه الأغنية دوراً أساسياً، فيكمل بعض الجمل التي قسمها الملحن بين المطرب والمجموعة. تركز كلمات الأغنية على ما يحدثه العيد من فرحة وابتهاج بين الناس، ودوره في تضميد الجراح ومحو الأحزان، ولم يدخر الملحن وسعاً في منح النص ما يستحق من النغم المبهج.
لم يكتف قنديل بأغنية واحدة للعيد، فأردفها بأخرى من نظم فتحي قورة وألحان منير مراد، وباستهلال رشيق يقول: "الحلو اللي كان مواعدنا.. جا فرح قلوب الكل.. تسعدنا تملّي يا عدنا.. لياليك اللي زي الفل". يترنم الكورال بهذا المذهب، ثم يدخل قنديل بصوته الرخيم مغرداً: "على نورك جمعت حبايب.. والفرحة في قلوبهم زايدة.. والحاضر بعت للغايب.. أشواقه في كارت معايدة". يعكس اللحن الروح المرحة التي اتسم بها أسلوب منير مراد.
عزّز قنديل رصيده من أغاني العيد، فقدم عملاً ثالثاً بعنوان "كل عام وأنتم بخير"، من تأليف عبد الفتاح مصطفى، وألحان علي إسماعيل. يستهل الكورال الأغنية بترديد جملة التهنئة التي تعنونت بها الأغنية، ثم يدخل قنديل بالغصن الأول: "كلمة حلوة.. زي غنوة.. فيها فرحة كل عيد.. كل مرة.. تحلى مرة.. مهما تتعاد من جيد". يكرّر الكورال عبارة "كل عام وأنتم بخير" التي جعلها المؤلف مذهباً متكرراً،
ثم يأتي صوت قنديل: "التحية والهدية والسلام.. الإشارة والعبارة والسلام.. عيدنا جايب بين إيديه صحبة مودة.. وردة حلوة تبتسم لك جنب وردة". لقنديل أغان أخرى للعيد مرتبطة بالأحداث السياسية، أو الوحدة بين مصر وسورية (1958)، أو ذكرى ثورة يوليو (1952). وإذا أُخذت هذه الأعمال في الاعتبار الإحصائي، فالغالب أن قنديل سيكون صاحب الرصيد الأكبر من الأغاني المناسبة للعيدين.
ومن أغاني العيد الجميلة والمطربة التي لم تحظ بما تستحق من الذيوع والانتشار نستذكر "يا جمال العيد" التي كتبها محمد زكي الملاح ولحنها شفيق أبو عوف، وشدت بها نازك بصوت بالغ الأسر والدفء. يقول مذهبها: "العيد العيد أهلاً بالعيد.. غنوله ده عيد.. ع الأمة سعيد.. العيد العيد يا جمال العيد". لكن لا يمكن للمستمع أن يتغافل عن تشابه لحن المذهب بمطلع أغنية أسمهان الشهيرة "عليك صلاة الله وسلامه". قدّم إسماعيل شبانة أغنية للعيد كتبها محمد إسماعيل ولحنها فؤاد السيد، يقول مذهبها: "أهلا بالعيد وجمال العيد.. هليت ولبسنا جديد في جديد.. يا جمال العيد".
كان صوت شبانة في الأغنية حنوناً دافئاً، لكن ربما اتسم اللحن بهدوء ورتابة لا تتناسب مع الأجواء النشطة التي تحبذها الإذاعات. في عام 1957، سجلت نجاة لإذاعة دمشق أغنية من ألحان محمد محسن، وأيضاً لم تحقق الذيوع والانتشار المنتظر من أغنية مناسبة دينية. تقول كلماتها: "في كل دار أفراح.. وكل قلب سعيد.. والبلبل الصداح.. بيغني ليوم العيد.. بيقولوا لحن غناه.. آنستنا يا عيد.. والكل قال وياه.. آنستنا يا عيد".
كانت فايدة كامل مطربة مناسبات بكل معنى الكلمة، لم تترك مناسبة دينية أو وطنية من دون أن تقدم لها عملاً على الأقل، وقدمت أغنية للعيد، كتبها مصطفى عبد الرحمن ولحنها سيد مصطفى، يقول مطلعها: "هغنيلك بلحن جديد.. وأقولك مرحبا يا عيد". جاءت الأغنية رتيبةً، تتعارض كلية مع ما عرف عن فايدة كامل من أداء متفجر ومفعم بالحيوية والنشاط، وهو ما كان الملحنون يستغلونه عن التلحين لها. قد يجد المستمع في الأغنية شيئاً من الطرب، لكنه سيشعر أنه أمام لحن ديني يشبه ما يقدمه المنشدون والمشايخ، وليس فيه الروح المرحة ولا الفرحة النشطة التي تميز أغاني العيد.
تطول القائمة المصرية لأغاني العيد، ولا سيما أنها تمتد زمنياً منذ أواخر الثلاثينيات وإلى اليوم. تضم القائمة أصوات عدد كبير من المطربين والمطربات، من بينهم: حورية حسن التي غنت "يا ناعمة يا غريبة" من ألحان محمود كامل، وعبده السروجي الذي قدم "النهاردة عيد" من ألحان أحمد صدقي، وصباح في أغنية "إيه ده كله" من ألحان محمد الموجي، ومها صبري في "أهلا جيتنا يا عيد" ألحان عزت الجاهلي، وهدى سلطان في "هليت يا عيدنا" من ألحان حلمي أمين، ومها صبري في "يا صباح العيد" لحن علي فراج، ومحمد رشدي في أغنية "هلت ليالي العيد" من ألحان بليغ حمدي.. وصولاً إلى أغاني ياسمين الخيام ومحمد ثروت وعلي الحجار وغادة رجب وأنغام ومنى عبد الغني وإيهاب توفيق.
وخارج الدائرة المصرية، يمكن للمستمع أن يتذكر أغاني عن العيد، لفيروز، ووديع الصافي، وفهد بلان، وطلال مداح، وغازي علي، ومحمد عبده، وفوزي محسون، وعبادي الجوهر، وعبد المجيد عبد الله، ومجد القاسم، وعوض الدوخي، وعبد الكريم ديالي، وطوني حنا، وسلوى القطريب، وابتسام حلمي.
يثير طول قائمة أغاني العيد سؤالاً مشروعاً عن أسباب الانتشار الجماهيري الذي تحققه إحدى الأغاني الخاصة بمناسبة معينة، في مقابل انحسار ونسيان تقع فيه أغنية أخرى تتحدث عن المناسبة نفسها. لا يمكن رد الانتشار أو الانحسار إلى سبب واحد، فالغالب أن عدة عوامل تتضافر وتتفاعل لتؤدي إلى نتيجة جماهيرية ما تجاه عمل غنائي. وفي مقدمة الأسباب، تأتي العوامل الذاتية، متمثلة في النص واللحن والأداء، ومدى شهرة المؤدي.
نعم، لا أحد اليوم ينتظر أن تتنافس مطربة أو مطرب بأغنية مع "يا ليلة العيد"، ولن يستطيع أحد اليوم أن يأتي بصوت كصوت أم كلثوم، ولا بلحن كلحن رياض السنباطي، ولا بكلمات مثل التي وضعها أحمد رامي.
لكن ليس بالضرورة أن يكون النجاح بهذه الصورة، ولا أن يحظى العمل بمكانة تاريخية، وإنما المقصود أن يفوز العمل برضا قطاع معتبر من الجماهير، وأن يفرض نفسه على خريطة الأعمال التي يتذكرها الناس ويحبون الاستماع إليها كلما هل العيد أو تكررت المناسبة.
لكن مع الإقرار بأهمية العوامل الذاتية، أثبتت التجربة أن تلك العوامل وحدها لا تكفي، فقد طوى النسيان عشرات من الأعمال الممتازة والجيدة، لأنها لم تحظ بالبث المتكرر في الإذاعة، أو أنها تعرضت للنسيان لأن التلفزيون لم يُعِد إنتاجها مصوّرةً. وليس هناك من شك في أن الإلحاح الإعلامي إذاعياً أو تلفزيونياً، يخلق حالة من الارتباط بين الجمهور وبين الأغنية، بغض النظر عن استحقاقها الفني لهذا الارتباط.
مثلاً، فإن أغنية "أهلاً بالعيد" التي غنتها صفاء أبو السعود، تضمنت كلمات سهلة وجميلة كتبها الشاعر عبد الوهاب محمد، ولحن مرح نشط وضعه جمال سلامة، جاء مناسباً جداً للعيد وفرحته، مع دور مبهج لكورال الأطفال.. لكن هذه الأغنية لم تكن -على جودتها- لتحقق كل هذا الانتشار والنجاح الجماهيري الواسع لولا أنها حظيت ببث متكرر مكثف في التلفزيون المصري، حتى صارت أهم أغنية للعيد لسنوات عديدة، قبل أن تتراجع لحساب "يا ليلة العيد" التي لا يبليها الزمن.