
الجوع والحصار والحرب… هكذا تقابل إسرائيل مقترحات التهدئة
الرأي الثالث - وكالات
مستندا إلى حلفائه في أحزاب اليمين المتطرف، يمضي رئيس الوزراء الإسرائيلي في عدوانه على قطاع غزة، الذي تجاوز الـ 600، ليوقع يوميا عشرات الضحايا غالبيتهم من الأطفال والنساء، غير مكترث إلى جهود وساطة التهدئة الجديدة التي انطلقت قبل أكثر من أسبوعين، إذ يواصل وضع شروطه التعجيزية، التي يرفض فيها الالتزام بقطع أي تعهد لوقف الحرب كليا عن القطاع، ما يعني مضيه في الحرب، لضمان بقائه في الحكم.
وشهدت أيام الأسبوع المنصرم عدة تطورات على صعيد العدوان على قطاع غزة، كان من أبرزها تصعيد الهجمات الحربية وتوسيع رقعة التوغلات البرية، من خلال إصدار أوامر جديدة تهدد السكان بالنزوح القسري، حتى أن غارات الاحتلال لاحقت السكان في هذه الأماكن التي لجئوا إليها ظنا أنها تحميهم من نيران جيش الاحتلال.
ووفق ما ذكرت المنظمات الأممية التي تقوم بجهود الإغاثة في غزة، فإن أوامر الإخلاء الجديدة التي طالت مناطق وأحياء جديدة في القطاع، بعد إنذارات صدرت لسكان بلدات الشمال وأخرى في مدينة خانيونس، ومن قبل لمناطق تقع على أطراف المنطقة الوسطى في القطاع، وقبل ذلك كله كانت مدينة رفح، أصبح أكثر من 80 في المئة من مساحة قطاع غزة، خاضعا لأوامر الإخلاء القسري، وقد نشرت خريطة توضح تلك المناطق التي طالتها أوامر التهديد الإسرائيلي، وتلك الضيقة المتبقية لإقامة أكثر من 2.4 مليون نسمة.
وعلى نطاق واسع انتشرت خيام النازحين لتملأ كل المساحات الفارغة والمنتزهات والطرقات في المناطق الغربية لمدينة غزة، التي لجأ إليها سكان المناطق الحدودية الشرقية في المدينة، مضاف إليهم غالبية سكان بلدات وأحياء ومخيمات شمال قطاع غزة، الذين خرجوا من هناك تحت وطأة القصف الجوي والمدفعي العنيف على مناطق سكنهم، والذي طال المشافي التي أخرجت قسرا عن الخدمة هناك.
أما في وسط قطاع غزة، فلم يعد هناك مكان في مراكز الإيواء، فيما بقي الحال في مناطق مخيمات الخيام على حاله بسبب التزاحم الشديد، ففي هذه المنطقة يقطن نازحون من عدة مناطق في القطاع، فيما لم يعد هناك موطأ قدم في مناطق غرب خان يونس وتحديدا في منطقة المواصي، التي يصلها يوميا نازحون من بلدات المدينة الشرقية، فارين من الهجمات العنيفة التي أسفرت عن استشهاد العشرات وإصابة المئات منهم على مدار أيام الأسبوع الماضي، خلال رحلات النزوح الإجباري، أو أولئك الذين كانوا في منازلهم وخيام نزوحهم هناك، وينتظرون النزوح حين تكون الفرصة مواتية، حيث يتطلب الأمر جهدا ومالا لنقل بعض مقتنيات الإقامة.
وفي جميع مناطق النزوح تظهر المأساة، بسبب النقص الحاد في المواد التموينية، حيث تقف المنظمات الإنسانية عاجزة عن تلبية مطالب الجياع خاصة الأطفال، بسبب الحصار الإسرائيلي، فيما يعاني الجميع أيضا من شح المياه ونقص الأدوية أيضا، وهناك تلاحقهم أيضا آلة الموت الإسرائيلية، تقتل العشرات منهم كما حدث في مجازر شهدتها مناطق شما القطاع ومدرسة الجرجاوي في مدينة غزة، وخيام النزوح في خان يونس،
وقد لوحظ أن وتيرة هذه الهجمات على مناطق النزوح ومناطق الإخلاء شهدت تصعيدا خطيرا، وسط انهيار منظومة الخدمات الصحية، التي لم تعد قادرة على تحمل طاقة العمل المضاعفة، في ظل نقص الإمكانيات وتدمير الكثير من المراكز والمشافي الطبية بما تحتويه من أجهزة طبية أساسية ومنها محطات الأكسجين.
ويدلل على ذلك الإحصائيات التي تقدمها وزارة الصحة يوميا، وتتضمن أعداد الشهداء والمصابين، حيث لوحظ ارتفاع أعداد الضحايا، فيما لا يزال كثيرون في مناطق التوغل غير مشمولين في الإحصائية، لعدم قدرة طواقم الإسعاف الوصول إليهم.
مأساة الحصار
ووسط كل هذه المأساة برزت الأسبوع الماضي إلى التطبيق العملي مخططات الاحتلال الخاصة بتوزيع المساعدات، فبعد حصار مشدد بدأ منذ الثاني من اذار/مارس الماضي، تخلله منع سلطات الاحتلال إدخال أي كميات من المواد التموينية والطبية والوقود، سمحت لنحو 130 شاحنة تقل مساعدات لمنظمات أممية بالدخول وفق مسارات محددة للسكان، سرعان ما تعرضت للنهب من قبل السكان الذين يعانون من الجوع وقلة الأكل، لإجبار الاحتلال تلك القوافل على السير من وسط مناطق النزوح المزدحمة، لتكون بذلك أقرب إلى تنفيذ مخططها الرامي للتحكم في عملية التوزيع من خلال أربعة مراكز أقامت ثلاثة منها في مدينة رفح، وواحد في منطقة «محور نتساريم» وسط قطاع غزة.
فالشاحنات التي دخلت غزة، ووصفها المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين «الأونروا» فليب لازريني بأنها أشبه بـ «إبرة بكومة قش» نظرا لقلتها، لم تحدث شيئا ملموسا بخصوص المجاعة، وبقيت معدلات الجوع وانتشار أمراض سوء التغذية على حالها، وسط تزايد التحذيرات الدولية وتحذيرات الجهات الطبية من موت عشرات المواطنين خاصة الأطفال وكبار السن جوعا.
وبعد تأخير دام يومين، افتتحت سلطات الاحتلال منتصف الأسبوع الماضي، وتحديدا يوم الثلاثاء مراكز التوزيع في مناطق جنوب القطاع، لتظهر صور السكان الذين خاطروا بأرواحهم وتحملوا مشقة الطريق الوعرة وشمس النهار الحامية، وهم يتدافعون بأعداد كبيرة صوب تلك المراكز، بحثا عن لقمة طعام يضعونها في أفواه الأطفال الجوعى، بعد أن ضاقت بهم كل السبل ولم يعد لهم غير آلية الاحتلال للحصول على الطعام.
وما كان ملفتا ويدلل على حجم أزمة الجوع، كانت الصور التي نقلت وتظهر عذابات الجياع الذين هرعوا إلى تلك المراكز، ومن بينهم من سقط بنيران جنود الاحتلال الذين استهدفوهم مرات عدة، لتقتل وتصيب وتعتقل عددا كبيرا، ومن بينهم نساء ورجال مسنين.
روايات كثيرة من هؤلاء السكان الذين قطع بعضهم مسافات تزيد عن الـ 30 كيلو مترا مشيا على الأقدام، حتى وصل إلى مراكز التوزيع، ليعود حاملا على ظهره طرد المساعدات الغذائي متحملا مشقة أخرى للطريق، حيث أكد جميعهم أن الحاجة وعدم توفر الطعام عند أسرهم أجبرهم على هذه المخاطرة،
حتى أن أحدهم قال شارحا الوضع السيء «ما في أكل في البيت، والصغار ما بسكتوا من طلب الأكل»، فيما قال إبراهيم راضي، أحد النازحين في منطقة المواصي، والذي فشل في اليوم الأول في الحصول على المساعدة، جراء التدافع والازدحام، إنه نجا ومن حوله من إطلاق النار الإسرائيلي، وقال إنه رغم المخاطر التي تحيط برحلة الذهاب والعودة إلا أنه لا يملك خيارا آخر.
لكن تدافع المواطنين لاحتياجهم الشديد للطعام، وعدم ملائمة خطة التوزيع الإسرائيلية التي انتقدتها منظمات الأمم المتحدة، أعلنت «مؤسسة غزة الإنسانية»، المدعومة أمريكيا وإسرائيليا، عن وقف توزيع المساعدات مؤقتا بقطاع غزة. ونقلت هيئة البث الإسرائيلية، عن المؤسسة أن التوزيع سيستأنف بعد فترة وجيزة من استعادة النظام واستئناف الإمدادات.
وبسبب خطة التوزيع التي تحمل مخططات سياسية خطيرة تهدف إلى ترحيل الفلسطينيين بعد تجميعهم في مناطق محددة، انتقدت الأمم المتحدة طريقة إدخال المواد الإغاثية واعترضت أيضا على خطة التوزيع الإسرائيلية من خلال إجبار السكان على الذهاب إلى مراكز التوزيع.
وفي تعليقه الجديد على عملية التوزيع الحاصلة، التي انتزعتها إسرائيل من المنظمات الدولية، قال المفوض العام للأونروا إنه «️لا يمكن التصدي للأزمة في غزة من خلال استغلال المساعدات الإنسانية لتمرير خطط سياسية وعسكرية»، وأكد أن آلية توزيع المساعدات الإسرائيلية «لا تلائم المعايير الإنسانية»، وأكد أن ️النظام الجديد لتوزيع المساعدات في غزة «يجبر السكان على الانتقال لمسافات بعيدة للحصول على المساعدة»،
وأضاف «️حصر توزيع المساعدات في 3 أو 4 نقاط تجبر سكان غزة على النزوح، في حين كنا نوزع من خلال 400 نقطة».
هذا وقد وصف المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك الوضع الإنساني في قطاع غزة بـ «المفجع»، وقال معلقا على آلية التوزيع الإسرائيلية، إن صور الحشود الفلسطينية التي تتدافع للحصول على المساعدات الغذائية في قطاع غزة «تدمي القلب»، وطالب بفتح جميع نقاط العبور للمساعدات الإنسانية والسلع التجارية، وأكد من جديد استعداد منظمات الأمم المتحدة الإغاثية وشركائها في المجال الإنساني، لتقديم المساعدات على نطاق واسع، وشدد على ضرورة احترام القانون الدولي وتمكين العمليات الإنسانية «بدون مزيد من التأخير».
وكان الأمين العام للأمم المتحدة، أعلن عن وجود خطة من خمس مراحل، لتوزيع المساعدات الإنسانية، في حال سماح سلطات الاحتلال بدخولها إلى القطاع، حيث تتكدس كميات كبيرة منها في المخازن القريبة سواء في مصر أو الأردن.
كما قوبلت الخطة الإسرائيلية بانتقادات فلسطينية واسعة، حيث رفض روحي فتوح رئيس المجلس الوطني الفلسطيني ما تقوم به سلطات الاحتلال، وأكد أن الاحتلال لا يكتفي بالقصف والقتل «بل يمضي في عسكرة المجاعة وتحويل الحاجة إلى الطعام والدواء إلى فخاخ ميدانية وسجون مفتوحة، يطلق فيها النار على الجوعى في طوابير المساعدات بطريقة لا نظير لها في التاريخ الحديث»، مطالبا بتحرك دولي عاجل لـ «وقف الإبادة الجماعية المستمرة، وتوفير حماية فورية لسكان القطاع قبل أن تكتمل جريمة الإبادة الصامتة».
أما المكتب الإعلامي الحكومي في غزة فقال عما جرى إنها تمثل «مجزرة حقيقية وجريمة حرب متكاملة الأركان»، مؤكدا أن عملية التوزيع الإسرائيلية تأتي ضمن مخطط واضح لـ «الإبادة والتهجير القسري»، وقال إن صور الحشود والتدافع «دليل قاطع على فشل الاحتلال في إدارة الوضع الإنساني الذي تسبب به عمداً»،
وتابع «إقامة غيتوهات عازلة، وخطوط تجميع قسرية وسط خطر الموت والجوع، لا يُعبر عن نية إنسانية حقيقية، بل يُجسد هندسة سياسية عنصرية تهدف إلى تفكيك المجتمع»، وطالب بتحرك دولي عاجل لوقف المجازر، وفتح المعابر فوراً بدون قيود، وارسال لجان تحقيق دولية مستقلة لـ«توثيق جرائم التجويع والإبادة، وتقديم قادة الاحتلال إلى العدالة الدولية».
وقالت حركة حماس، إن مشاهد اندفاع الآلاف من المواطنين داخل المركز الذي خُصّص لتنفيذ الآلية الاحتلالية لتوزيع المساعدات، وما رافقها من إطلاق الرصاص الحي على المواطنين الذين توجهوا هناك «تحت ضغط الجوع والحصار»، تؤكّد بما لا يدع مجالاً للشك «فشل هذه الآلية المشبوهة»، وقالت إن الخطة صمّمت خصيصًا لتهميش دور الأمم المتحدة ووكالاتها، وقالت «إنّ ما يُسمّى بمواقع التوزيع الآمن، التي تُقام في مناطق عازلة، ليست سوى نموذج قسري لممرات إنسانية مفخخة، يجري من خلالها إهانة المتضرّرين عمدًا، وتحويل المعونة إلى أداة ابتزاز ضمن مخطط ممنهج للتجويع والإخضاع».
وإلى جانب هذا كله، برزت الأسبوع الماضي خطط الاحتلال لاستمرار الحرب ضد قطاع غزة، ففي وسط الحديث عن تطورات التهدئة، فبعد إعلان حركة حماس التوصل إلى اتفاق مع المبعوث الأمريكي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، في إطار عام لوقف إطلاق النار وتبادل أسرى في قطاع غزة،
ويشمل تولي لجنة مهنية إدارة شؤون القطاع فور الإعلان عن الاتفاق، إلى جانب إطلاق سراح عشرة من الأسرى الإسرائيليين (الأحياء) وعدد من الجثث، مقابل إطلاق سراح عدد متفق عليه من الأسرى الفلسطينيين، وذلك بضمان الوسطاء، لتعلن في النهاية أنها تنتـــظر «الــــردّ النهائي» من الوســـطاء على هذا الإطار، عادت أمريكا وأعلنت عن وجود خطة جديدة لـ «ويتكوف»، لا تنص على أي بند يلزم إسرائيل بإنهاء الحرب عن غزة.
وتشمل الخطة الجديدة إطلاق سراح 10 أسرى إسرائيليين أحياء و 18 جثمانا نصفهم في اليوم الأول ونصفهم في اليوم السابع، على أن تكون مدة التهدئة 60 يوما، تدخل فيها المساعدات بعدة آليات ويتم فيها انسحاب القوات الإسرائيلية إلى خطوط انسحاب يتفق عليها ويطلق مقابل الأسرى الإسرائيليين، 125 أسيرا فلسطينيا من المحكومين مؤبدات و1111 أسيرا من أسرى غزة الذي تم أسرهم بعد 7 أكتوبر، و180 جثمان فلسطيني،
كما يتضمن الاتفاق ضمانات أمريكية باستمرار المفاوضات خلال الـ 60 يوما، حتى التوصل إلى وقف إطلاق نار دائم وأن يستمر وقف إطلاق حسب المدة المحددة ما دامت المفاوضات مستمرة بإيجابية، ذكرت «القناة 13» الإسرائيلية، أن الصفقة المقترحة من المبعوث الأمريكي لا تشمل التزاما بإنهاء الحرب، لكنها تضمن استمرار المفاوضات برعاية أمريكية، وذكرت ان إسرائيل لن تمنح ضمانات لإنهاء الحرب، ولتعلن إسرائيل الموافقة على هذه الورقة التي تمنحها فرص لمعاودة استئناف العدوان.
ومن أجل الضغط على الأرض، لجأت إسرائيل إلى التصعيد العسكري، فقبيل طرح الخطة الجديدة كان رئيس أركان جيش الاحتلال الجنرال إيال زامير، قد أجرى جولة لتقييم الهجوم الحربي الجديد ضد قطاع غزة، حيث وصل خلالها إلى مدينة خان يونس، وتحدث هناك مع الجنود الذين جرى الدفع بهم لتنفيذ هذا الهجوم،
وقال هناك «نحن نكثف نشاطنا وفقًا للخطة المعتادة، سنستخدم كل الوسائل المتاحة لنا لإعادة المختطفين إلى ديارهم، وهزيمة حماس وتفكيك حكمها»، وليتابع «نريد هزيمتها (حماس)، وسنفعل ذلك بعزم ودقة، مع الحفاظ على أمن القوات»، فيما نقلت تقارير عبرية عن رئيس جهاز «الشاباك» المعين ديفيد زيني، قوله «هذه حرب أبدية».
وأعلن المسؤولان العسكري والأمني المضي في الحرب، حتى أن دخول الأول من جديد إلى منطقة العمليات العسكرية في خان يونس، تؤكد على مضيه في تنفيذ خطته الحربية «عربات جدعون»، خاصة بعد الدفع بجميع ألوية المشاة والمدرعات في جيش الاحتلال إلى القطاع، حسب ما جرى الكشف عنه مطلع الأسبوع الماضي، لتضاف إلى الفرق العسكرية هناك، خاصة وأن إذاعة الجيش الإسرائيلي، كشفت أن الفرقة 162 العسكرية، ستوسع نشاطها في مناطق شمالي قطاع غزة.
أما رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو فقد تراجع عن تصريحاته بقرب عقد الصفقة، ليعطي إشارات بأن أمر تطبيقها ليس قريبا، خاصة في ظل رفضه التعهد بوقف الحرب كليا، وهي تهديدات سبقت إعلان ويتكوف تغيير خطته، وتجاوز تفاهمات أبرمتها حركة حماس مع الوسيط الأمريكي بشارة بحبح، ليقدم خطة تلبي مطالب نتنياهو بعدم تقديم التزام بوقف الحرب، وعقد صفقات تهدئة جزئية فقط.
وأكد ذلك القيادي في حماس باسم نعيم وهو يعلق على المقترحات الجديدة بالقول إنها تعني «تأبيد الاحتلال واستمرار القتل والمجاعة، حتى في فترة التهدئة المؤقتة»، مؤكدا أن المقترحات لا تستجيب لأي من مطالب الشعب الفلسطيني في مقدمتها وقف الحرب والمجاعة.