
فتح طريق الضالع - دمت… بين أوهام الإنجاز المحلي وحقيقة القرار الخارجي
في الوقت الذي استبشر فيه آلاف اليمنيين بفتح طريق الضالع – دمت، كخطوة منتظرة منذ سنوات في سبيل فك الحصار الداخلي وإنهاء المعاناة اليومية للمسافرين والمرضى، انشغلت الساحة السياسية بتنازع غير مباشر حول “من صاحب القرار”، متجاهلة أن ما جرى لا يُفهم إلا ضمن سياق إقليمي أكبر يقوده السعوديين
، تحت غطاء تفاهمات مباشرة مع الحوثيين وبرعاية أممية، بينما تكتفي الأطراف اليمنية الفاعلة محلياً بلعب دور المتفرج أو المنفذ .
فتح الطريق :
قرار سياسي لا إنساني
ليست المرة الأولى التي يُطرح فيها موضوع فتح الطريق الرابط بين شمال اليمن وجنوبه عبر الضالع .
فقد سبق للحوثيين أن شكلوا لجنة بقيادة وزير الطرقات السابق الشيخ غالب مطلق في محاولة لفتح الطريق من طرفهم، غير أن المجلس الانتقالي الجنوبي حينها عرقل المساعي واشترط وقف إطلاق النار وتشكيل لجان مشتركة كغطاء لرفض سياسي مستتر .
اليوم، ومع أن المعطيات لم تتغير جذرياً على الأرض، تغير شيء واحد فقط :
الإرادة الإقليمية .
فالسعوديين، وبعد التفاهمات المتقدمة التي أبرموها مع الحوثيين برعاية سلطنة عُمان ومظلة أممية، قرروا فتح هذا الطريق كجزء من خارطة تهدئة يمضون فيها بخطى ثابتة نحو تسوية شاملة، ما يجعل فتح الطريق فعلاً سياسياً لا قراراً محلياً نابعاً من إرادة يمنية مستقلة .
الانتقالي… بين الوهم والسيادة المفقودة
رغم أن بعض الأصوات المحسوبة على المجلس الانتقالي حاولت الترويج لفتح الطريق كخطوة “ جنوبية مسؤولة ”، إلا أن غياب الشروط السابقة التي كانت تُطرح بصلابة، والتعاطي المفاجئ مع المسألة دون أي مفاوضات علنية، يكشف بوضوح أن القرار لم يكن بيد الانتقالي، بل نُفذ بأمر من أعلى، من رُعاة المرحلة لا من شركاء المعركة .
بل إن التسليم الضمني للأمر الواقع يفضح هشاشة ادعاء السيادة المحلية، ويؤكد أن كل المفاصل السيادية – من الطرق إلى الطيران وحتى الثروات – تدار من خارج الحدود، فيما تتقاسم المكونات السياسية أدوار التنفيذ أو التجميل الإعلامي .
تلفزيون “ المسيرة ” يوثق… وصورة المشهد تتجاوز الكلمات
ظهور جنود جنوبيين عبر شاشة قناة “ المسيرة ” الحوثية في مشاهد تهنئة وشكر بعد فتح الطريق، ليست مجرد صدفة إعلامية، بل صورة بانورامية مكثفة لمشهد سياسي أكبر في طور التشكل .
فاليوم، أصبحت لغة التسويات تتجاوز المنابر المحلية، وتتجه نحو طي صفحات الحرب بالتدريج، بما يُشبه التهيئة النفسية والاجتماعية للسلام “ المفروض ”، لا المتفاوض عليه .
أين الأصوات اليمنية؟
سؤال مغيَّب منذ زمن
المفارقة أن كل ذلك يجري، والشارع اليمني – في عمومه – مغيّب عن طاولة القرار .
لا الحوثيون يملكون شرعية التفاوض باسم الشمال، ولا الانتقالي يتحدث باسم الجنوب خارج ما يقرره التحالف .
بل حتى حكومة “ الشرعية ” في عدن لا تملك زمام المبادرة، بعدما اختزلت قراراتها السيادية في ملفات شكلية، وبقيت الملفات الجوهرية محصورة بين الرياض وصنعاء تحت رعاية إقليمية ودولية .
هل يشكّل فتح الطريق بداية؟ أم مجرّد اختبار؟
فتح طريق الضالع قد يُقرأ كبداية تطبيع داخلي تدريجي يمهد للتسوية السياسية المنتظرة .
لكنه في المقابل، قد يكون اختباراً لإرادة الأطراف المحلية وقدرتها على ضبط الواقع الأمني والتعاطي مع “ زمن ما بعد الحرب ” .
الإنسانية لا تتجزأ…
والمنطق لا يُبتر
إذا كان فتح طريق الضالع يُسوّق كخطوة إنسانية، فلماذا لا يُستكمل الأمر بفتح طرق لحج وأبين وشبوة ؟ ولماذا تُستثنى مناطق يمنية أخرى من هذا “ الكرم الإنساني المفاجئ ” ؟
المنطق الإنساني لا يُقبل أن يكون أداة لشرعنة صفقات جزئية، بل يجب أن يكون شاملاً، عابراً للطوائف والمناطق، جامعاً لليمنيين لا مصنفاً لهم .
وإلا فإن ما يُقدَّم على أنه “ مكسب للناس ” ليس سوى “ مؤشر على مدى قابلية الأطراف للتطويع ”، وورقة تُستخدم لاختبار جهوزية الميدان لتقبل الترتيبات النهائية .
الخلاصة :
…. بين “فتح الطريق” و”تعبيد الذاكرة”
قد يُفتح الطريق جغرافياً، لكن الذاكرة اليمنية ما تزال مملوءة بالحفر . فالوجع ليس فقط في المسافات الطويلة، بل في الجدران النفسية التي بنتها سنوات الحرب والتجويع والتضليل .
وإن لم يتحول فتح الطريق إلى فتح في العقول والضمائر والنيات، فسنظل ندور في حلقة مفرغة، نُساق فيها من اتفاق إلى آخر، دون أن نعرف :
من يقود اليمن ؟ وإلى أين ؟
صحيفة بحر العرب