أميركا واستراتيجية عقاب الحوثيين
أفضت الهزّات السياسية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط إلى إنتاج واقع إقليمي جديد، تمثل بزحزحة نفوذ إيران، إلى جانب مضاعفة مستويات المخاطر والتحدّيات التي تواجه وكلاءها،
كما أن الاستراتيجية الأميركية الحالية، التي كثّفت مواردها ودبلوماسيتها لتفكيك نفوذ إيران، وأيضاً تطويق مفاعيل قوتها الإقليمية، جعل ما تبقّى من وكلاء إيران الفاعلين في مرمى السياسات الأميركية العقابية التي هدفت إلى خنقهم سياسياً واقتصادياً.
حضرت اليمن في المعادلة الأمنية الأميركية جزءاً من استراتيجية تطويق وكلاء ايران الفاعلين، من منطلق التهديدات الأمنية والعسكرية التي تشكّلها جماعة الحوثي، سواء على أمن إسرائيل أو على المصالح الأميركية في المنطقة،
فضلاً عن سعيها إلى إعادة ترتيب الوضع الإقليمي الحالي، ولمركزية الجماعة التي باتت أهم وكلاء إيران في هذه المرحلة، فإن الإدارة الأميركية كثّفت سياستها العقابية لاستهداف القدرة العسكرية للجماعة، وإنْ بوسائل غير مباشرة.
ومع أن مقاربة الوضع اليمني من الزاوية الأمنية باتت تشكّل النهج التقليدي للسياسة الأميركية، فإنها تشي، ليس بقصورها عن إدراك جذور المُشكل اليمني ووسائل حلّه فقط، بل تكشف فشل السياسات الأميركية المتعاقبة في تحقيق اختراقٍ سياسيٍّ ينهي الحرب في اليمن، ومن ثمّ يقضي على إمكانية تحوّل اليمن تهديداً أمنياً دائماً،
إلا أن سياسة مواجهة الأعراض تعني بحسب الاستراتيجية الأميركية القضاء على التهديدات الآنية التي تمثّلها جماعة الحوثي، ومن ثمّ تحجيمها عسكرياً واقتصادياً بوسائل عدّة،
فمن جهة أعادت الإدارة الأميركية تصنيف الجماعة منظّمةً إرهابيةً (دخل حيّز التنفيذ في 4 مارس/ آذار 2025)، كما بدأت بتنفيذ قرار التصنيف بحظر استيراد المشتقّات النفطية عبر ميناء الحديدة، وإنهاء تصاريح تفريغ النفط المرتبط بالجماعة بحلول مطلع الشهر المقبل (إبريل/ نيسان).
ومن جهة ثانية، بدأت الإدارة الأميركية سلسلة غارات استهدفت العاصمة صنعاء (15 مارس/ آذار الحالي)، بعد إعلان الرئيس ترامب استخدام القوّة الساحقة ضدّ الحوثيين بإطلاق عملية عسكرية لعرقلتهم الملاحة،
وأسفرت الغارات عن مقتل تسعة مدنيين في صنعاء، إلى جانب توسيع الإدارة الأميركية عقوباتها ضدّ الجماعة، وطاولت قيادات سياسية من الصفّ الأول، إضافة إلى التعويل على سياسات العقوبات القصوى ضدّ إيران ونتائجها على الجماعة.
وأيضاً، استثمار التحوّلات العسكرية المترتبة من تقليص وكلاء إيران في المنطقة، التي غيّرت موازين القوى لصالح خصومها، بما في ذلك إعادة تثبيت سيادة السلطات المحلّية، علّه يؤدّي إلى خنق الجماعة، أو على الأقلّ مضاعفة التحدّيات التي تواجهها بوصفها سلطةَ أمر واقع.
تقتضي سياسة حصار جماعة الحوثي وإضعافها، وفقاً للتوجهات الأميركية، مستويين من المعالجة. أولاً، المستوى الإقليمي. فوفق منطق أن تحجيم الدعم الإيراني لوكلائها يتأتّى من سياسة العقوبات القصوى ضدّها،
ويعني إضعاف وكلائها، إذ إن تركيز الإدارة الأميركية في قطاع النفط الإيراني، إلى جانب أنه وسيلة للضغط لاستئناف التفاوض بشأن ملفّها النووي، وإن بالشروط الأميركية، يجذّر الأزمة الاقتصادية في الداخل الإيراني،
ومن ثمّ يفرض على السلطة تسخير مواردها لمواجهة التحدّيات المعيشية لمواطنيها، ومن ثم تقلّص مواردها الاقتصادية المستقطعة لتمويل وكلائها، ومنهم جماعة الحوثي، إلى جانب أن استهداف قطاع النفط بعقوبات دورية يضيّق قنوات التجارة غير الرسمية بين إيران والجماعة، ومن ثمّ يفقدها إيرادات سهلة جراء تهريب النفط والغاز وبيعهما.
ومن جهة ثانية، فإن السياسة البعيدة الأمد من تطبيع العلاقة الأميركية الروسية، لا تهدف إلى إيجاد تحالفات سياسية وأمنية على مستوى القوى الدولية بإدارة ملفّ الحرب الروسية في أوكرانيا، فقط، بل تهدف أيضاً إلى تفكيك التحالف الروسي الإيراني، أو على الأقلّ تخفيض مستوى التبادل التجاري والعسكري الذي يستفيد منه وكلاء إيران كجماعة الحوثي.
ومن جهة أخرى، ومن خلال سياسة الضغط على إيران، سواء بالتهديد العسكري أو بالدبلوماسية، بما في ذلك إدارة الملفّ النووي، تهدف الإدارة الأميركية علاوة على تقييد القدرة النووية لإيران إلى الضغط عليها في ملفّات أمنية وسياسية أخرى مهمّة، كوقف دعم وكلائها، سواء في العراق أو اليمن.
وفي مستوى آخر، تهدف الإدارة الأميركية من عمليتها العسكرية التي أعلنتها إلى استهداف البنية العسكرية للجماعة، وذلك بعد إعادة تصنيفها منظّمةً إرهابيةً، ويعني تجريمها سياسياً، أي جعلها تتساوى في الحظر والعقوبة مع جماعات الإسلام الجهادي،
ومن ثم تجريم أيّ قوىً دوليةٍ أو محليةٍ تتعاطى دبلوماسياً معها، ومن ثمّ تفعيل سياسة العزل السياسي. أمّا عسكرياً، وإن لم تتّضح مسارات الهجمات الجوية، وقدرة الإدارة الأميركية في توجيه ضربة حاسمة للحوثيين،
فإنها تعوّل وبموازاة ذلك، على أن تؤثّر سياسة العقوبات القصوى على إيران على استقرار اقتصاد الجماعة، ومن ثمّ توليد تحدّيات اقتصادية، بما في ذلك تحجيم إمكانية تطوير قدرتها العسكرية،
فيما تستهدف العقوبات الاقتصادية الموجّهة، سواء بتصنيفها منظّمةً إرهابيةً أو حظر استيراد النفط في ميناء الحديدة، إلى الإضرار باقتصادها المحلّي، إذ يتيح سلاح العقوبات الاقتصادي للإدارة الأميركية نوعاً من المرونة يعفيها من مخاطر التدخّل عسكرياً في اليمن،
في مقابل المضي في حصار الجماعة وإضعافها من دون تكبّد خسائر مالية.
ومن جهة أخرى، وعلى الرغم من أن ضرب وكلاء إيران أدّى إلى تحسّن شروط القوى المحلية، وهو ما استثمرته الإدارة الأميركية، لتثبيت هيمنة الدولة وتحجيم حزب الله حالةً لبنانية، أو للضغط على الحكومة العراقية لحلّ المليشيات الشيعية الموالية لإيران،
فإن تحوّلات نفوذ وكلاء إيران لم يؤدِّ إلى تغيير المعادلة المحلّية في اليمن، ومن ثمّ صعوبة المراهنة، في الوقت الراهن، على أن تسهم هذه المعطيات في تحسين شروط خصوم الجماعة عسكرياً، عدا عن دفع الحرب في اليمن إلى مسار التصعيد الشامل، ومع تردّد الإدارة الأميركية في التدخّل العسكري للقضاء على الجماعة، وربّما اقتصارها في الوقت الراهن على الغارات الجوية، فإنها قد تراهن على النتائج السياسية والاقتصادية لتصنيفها منظّمةً إرهابية، واستمرار استهداف شبكات تمويلها.
أما ما يخص جماعة الحوثي، فإن علاقتها التحالفية مع إيران، وإن أضرّت بها جراء السياسات العقابية الأميركية، فإنها حرصت على تخفيض مستويات هذا الترابط سياسياً على الأقلّ، بتركيز دورها قوّةَ إسنادٍ للمقاومة الإسلامية في غزّة، الذي يعني استمرارها قوّةً تهدّد إسرائيل، ومن ثم، مواجهتها السياسة الأميركية في المنطقة،
وإذا كان السلوك الحذر للجماعة حيال أميركا سابقاً حكمته الظروف الإقليمية، أي الإرباك الذي تواجهه إيران، والأكثر أهمية خفض مستويات التوتّر بين إسرائيل و"حماس" خلال المرحلة الأولى من صفقة تبادل الرهائن، حيث التزمت الجماعة بالتهدئة في مقابل تخفيض تداعيات إعادة تصنيفها منظّمة إرهابية،
فإن التوتّرات أخيراً، سواء على الصعيد المحلّي المتمثّل بالسياسة الأميركية العقابية ضدّ الجماعة، أو في شقّها الإقليمي، دفعت الجماعة إلى تجاوز سياستها الحذرة،
فإلى جانب العقوبات الأميركية التي طاولت قيادات الصفّ الأول من الجماعة، من المتحدّث الرسمي إلى رئيس المجلس السياسي وقيادات بارزة أخرى، ويعني رفع الغطاء السياسي عن هرم سلطة الجماعة بأكمله، فإن الهدنة الهشّة في غزّة وتجميد إسرائيل للمضي في المرحلة الثانية من اتفاق الهدنة، ووقفها تدفّق المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة للضغط على حركة حماس، دفع الجماعة إلى إعادة تحريك ورقة الملاحة في البحر الأحمر في سياق مواجهة النفوذ الإسرائيلي، ومن ثمّ الأميركي في المنطقة،
فتحت ذريعة رفع الحصار الإنساني عن الفلسطينيين في قطاع غزّة أعلنت الجماعة (في منتصف مارس/ آذارالحالي) حظر عبور السفن التابعة لإسرائيل في البحر الأحمر،
ومع أنه لا يمكن التكهّن حتى الآن بتداعيات هذا الإجراء على حركة الملاحة، والاتجاهات التي قد تمضي بها الإدارة الأميركية للردّ على تهديدات الجماعة، لكنه يعكس إلى حدّ كبير مخاوفَ الجماعة من جرّ الصراع إلى صدام ستجني خسائره.
في المحصّلة، تصعيد العداء ضدّ أميركا وإسرائيل، مع إضعاف إيران وشبكة وكلائها، هي معركة مكلفةٌ لجماعة الحوثي، والأهم مواجهة سياسة الردع العسكرية التي قد تنتجها إدارة ترامب، إلى جانب سلاح العقوبات بتبعاته السياسية والاقتصادية،
وبعيداً من نتائج العملية العسكرية على اليمن، ومضاعفتها على جماعة الحوثيين، تعني إعادةُ تصنيفها منظّمةً إرهابيةً تحسينَ مركز خصومها المحلّيين، سياسياً على الأقلّ، في مقابل مضاعفة عزلها، إلى جانب دفعها إلى تبني سياسة راديكالية متشدّدة ستطاول عواقبها المواطنين في المناطق الخاضعة لها.
ومن جهة أخرى، يقضي تصنيف الجماعة "إرهابيةً" على فرص استئناف المفاوضات بين الفرقاء اليمنيين، ومن ثمّ إنهاء الحرب، وإن كانت الجماعة، كخصومها، لا تسعى إلى وقف الحرب، إذ إن بقاء اليمن تهديداً أمنياً يعني بقاء شروط القوة عند الفرقاء اليمنيين.
ومن جهة ثالثة، تظلّ التداعيات الاقتصادية المترتّبة من تصنيف الجماعة بالإرهاب التحدّيَ الأكبرَ عندها، فإلى جانب تبعات استمرار استهداف شبكات تمويلها، فإن وسمها بالإرهاب ومضاعفة العقوبات الاقتصادية، وحظر استيراد المشتقّات النفطية من مدينة الحديدة، يضع اقتصادها على المحكّ،
وإذا أضفنا إلى ذلك العقوبات التي طاولت عدداً من البنوك التجارية في العاصمة صنعاء، التي فرضتها الإدارة الأميركية السابقة، فإن التحدّيات الاقتصادية التي ستواجهها الجماعة وخيمة، إلى جانب السياسات الاقتصادية التي قد يلجأ إليها خصومها المحلّيون لتفعيل تصنيفها في قائمة الإرهاب، والذي قد يدفع الانقسام المالي والمصرفي والحرب الاقتصادية في اليمن إلى الأمام، التي بالطبع،
وبعيداً من مضامين الإرهاب ودوافعه عند قوى الطغيان العالمي، وأيضاً استثمارات الجماعة، والخطوات التي قد تلجأ إليها لتجاوز العقوبات، فإن العقاب الاقتصادي سيطاول عواقبه الكارثية اليمنيين المفقرين أصلاً.
* كاتبة وناشطة يمنية