
المساعدات الخارجية... صداع ترمب في رأس العالم
المساعدات الخارجية أصبحت صداعاً في رأس العالم. لم تعد ملفاً مفروغاً منه معروف الملامح للمانح والمتلقي. عقود طويلة من التعامل مع المساعدات الخارجية والإنسانية والتنموية باعتبارها تحصيل حاصل أنهاها الرئيس الأميركي ترمب بجرة قلم، وهرولت في ركبه دول أوروبية، هي الدول الأكثر منحاً للدول الأكثر احتياجاً. صفحة من صفحات المساعدات انتهت، وفصل جديد من دبلوماسية المنح الناعمة يجري سطره، لكن بخطوط أكثر جرأة ووجوهاً أكثر انكشافاً.
المساعدات الخارجية هي التحويل الدولي لرأس المال أو السلع أو الخدمات من بلد أو منظمة دولية لمصلحة البلد المتلقي أو سكانه. هذه المساعدات قد تكون اقتصادية أو عسكرية أو إنسانية طارئة كتلك التي تقدم في أعقاب كارثة طبيعية أو حرب مدمرة. وقد تأتي على هيئة تحويل موارد المالية، أو سلع مثل الغذاء، أو المعدات العسكرية، أو المشورة الفنية والتدريب. أكثرها شيوعاً هو المساعدات التنموية الرسمية، التي تعرف نفسها بأنها بغرض تعزيز التنمية ومكافحة الفقر.
كثير من هذه المساعدات يكون في هيئة منح ثنائية، تقدمها الدولة المانحة إلى دولة نامية. وهي لا تقتصر على المنح التي لا تُرَد، لكنها تشمل أيضاً القروض. وجانب من المساعدات الخارجية يجري توجيهه عبر منظمات دولية أو غير حكومية تقوم بإدارته بحسب اتفاقات أو شروط مسبقة.
عربون محبة
هذا ما تذكره المراجع وتسرده الموسوعات في باب "المساعدات الخارجية والمنح الأجنبية". الأقل ذكراً والأندر سرداً هو أن الجانب الأكبر من هذه المساعدات لا يقدم رأفة بالدول الممنوحة، أو إنقاذاً لشعوبها المطحونة، لكنها تكون بغرض تحقيق أهداف وأغراض الدول المانحة. الأهداف كثيرة والأغراض عديدة: تعزيز أمنها، إذ ثبت بالتاريخ والجغرافيا أن المساعدات الاقتصادية التي تقدم من الدولة المانحة قد تساعد في "حماية" الدولة الممنوحة من الوقوع في براثن "دولة شريرة" أو غير صديقة، أو كـ"عربون محبة ودعم" ليضمن السماح للدولة المانحة بإنشاء قاعدة عسكرية أو استخدام القواعد العسكرية للدولة الممنوحة. لماذا؟ لتحقيق أهداف دبلوماسية أو اقتصادية أو عسكرية أو أمنية للدولة المانحة.
وأحد الأهداف التي قلما يأتي ذكرها للمساعدات الأجنبية هو تسهيل حشد الدعم السياسي أو التعضيد الدبلوماسي لمصلحة الدولة المانحة، عملاً بمبدأ "قدم السبت لتجد الأحد". وقد تمنح المساعدات لتعزيز صادرات الدولة المانحة، وكثيراً ما تنص اتفاقات المساعدات الأجنبية على شرط استخدام أموال المعونة لشراء منتجات الدولة المانحة، إضافة إلى دفع رواتب مستشاريها وخبرائها، ما يرسخ مبدأ "منها وإليها"! ومن المنح ما يقدم بغرض تعزيز ونشر لغة الدولة المانحة أو ثقافتها أو معتقداتها أو دينها، وهو ما يمكن تسميته بـ"المنح الناعمة".
هامش للطوارئ
وعلى رغم ما تبدو عليه الأغراض والأهداف السابقة من براغماتية قاسية، أو واقعية مفرطة، يظل هناك هامش في المساعدات يجري تخصيصه بشكل عاجل وطارئ لتخفيف المعاناة التي تنجم عن الكوارث، سواء الطبيعية مثل الزلازل والأوبئة والفيضانات، أو تلك التي يصنعها الإنسان، الذي قد يكون الإنسان نفسه المقدم للمنحة، مثل إشعال الحروب أو إذكاء الصراعات أو السكوت على المجاعات أو تغذية الإرهاب!
ولأن المصائب والكوارث لا تأتي فرادى، فإن المنح والمساعدات أيضاً لا تأتي فرادى. عادة تأتي برامج المساعدات في هيئة حزمة موجهة لتوليفة من الأغراض العسكرية والاقتصادية والبيئية والإنسانية، أو غيرها من التوليفات.
ولفرط هيمنة "المساعدات الأجنبية" الأميركية، وبعدها الأوروبية، وتليها تلك التي تأتي عبر المؤسسات الدولية والأممية المانحة على الأجواء، يعتقد البعض أن تاريخ المساعدات الأجنبية مرتبط بتاريخ الولايات المتحدة الأميركية، أو نشأة أوروبا، أو تأسيس مؤسسات المنح والتمويل، وأن المساعدات الخارجية بالضرورة هي المنح الدراسية والمساعدات الغذائية والأدوية الطبية وما تيسر من مساعدات عسكرية.
والحقيقة هي أن أقدم أشكال المساعدات الخارجية هي العسكرية، وهو ما يقول الكثير عن الغرض الأصلي والمنطقي والواقعي لها، وكانت مصممة لمساعدة طرف متحارب لترجيح كفته على حساب الطرف الآخر، وذلك لتحقيق أهداف سياسية واستراتيجية للدولة المانحة.
منح المستعمرات
موسوعة "بريتانيكا" تشير إلى أن أقدم استخدام موثق للمساعدات الخارجية يعود إلى القرن الـ 18 وقت دعمت روسيا عدداً من حلفائها. وفي القرنين الـ 19 والـ 20، قدمت قوى أوروبية مبالغ مالية ضخمة لمستعمراتها، وذلك تحت مسمى "تحسين البنى التحتية". وكان الهدف هو زيادة الناتج الاقتصادي، الذي يصب في مصلحة المستعمر في نهاية الأمر.
المؤكد أن الدول الأقل نمواً أو ثراءً أو احتياجاً لم تمد أياديها في مطلع التاريخ أو منتصفه للدول الأكثر حظاً أو مالاً طالبة "حسنة قليلة" ملوحة بميزة "منع بلاوي كثيرة". والمؤكد أن الدول الغنية أو نصف الغنية التي تستقطع جانباً من موازناتها أو تخصص جزءاً من فوائضها لتسلمه للدول غير الغنية لا تفعل ذلك "من أجل سواد عيون" هذه الدول، أو حتى لأن قلوب الدول الغنية الرقيقة لا تتحمل رؤية من يعاني أو يقاسي أو يكابد الفقر أو العوز أو المرض فقط. وكما يقول المثل الإنجليزي: "لا يوجد شيء اسمه وجبة غذاء مجانية".
وجبات الغذاء المجانية، أو التي بدت مجانية، التي يتناولها عديد من دول العالم تكشف هذه الأيام عن وجهه غير المجاني بشكل غير مسبوق. قبل ساعات، قال مسؤولون في الإدارة الأميركية إن واشنطن ستوقف مؤقتاً الدعم الذي تقدمه لأوكرانيا، وذلك إلى أن تتم مراجعة منظومة هذا الدعم والمساعدات الأميركية، ودورها في جهود إنهاء الصراع.
من يملك المنح يملك المنع
من يملك المنح، يملك المنع، بحسب قواعده وتوقيته ومزاجه وأهدافه. وحديث مسؤولين أميركيين عن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بتجميد المساعدات العسكرية لأوكرانيا ليس صادماً أو مفاجئاً أو غير متوقع، وذلك لسببين، أولهما خبري مباشر، والآخر إجرائي معلن قبل أسابيع.
الأول هو تكملة "طبيعية" للقاء غير الطبيعي بين الرئيسين ترمب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي شهد مشادة علنية واحتقاناً غير مسبوق في الدوائر الدبلوماسية ومواجهة أقل ما يمكن أن توصف به هو أنها صادمة.
أما الثاني فيتعلق بالحقبة الجديدة المعلنة من قبل ترمب في ما يتعلق بملف برامج التنمية والمساعدات الخارجية الأميركية. قبل أيام، فاجأت أميركا العالم بالإعلان عن تخفيض حاد وآني لموازنات برامج التنمية والمساعدات الخارجية، وذلك بنسبة 92 في المئة، أي بمقدار 54 مليار دولار أميركي، اتباعاً للشعار الذي رفعه ترمب، وربما أسهم إلى حد كبير في ترجيح كفة فوزه في الانتخابات الرئاسية، "أميركا أولاً".
"أميركا أولاً"
"أميركا أولاً" ألقت بظلالها على المعونات والمساعدات الأميركية الخارجية من خلال إلغاء نحو 5800 منحة قيمتها 54 مليار دولار. وكان ترمب في اليوم الأول لدخوله البيت الأبيض، في 20 يناير (كانون الثاني) الماضي، قد وقّع أمراً تنفيذياً قضى بتجميد المساعدات الخارجية لمدة 90 يوماً، معتبراً ذلك ضرورياً لإخضاع الملف برمته لمراجعة كاملة، وتقييم مدة امتثال "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" للسياسة التي ينوي اتباعها في هذا الشأن.
محاولات جهات أميركية عرقلة هذا القرار، أو تعطيله كسباً للوقت، مثل صدور قرار قاض فيدرالي تعليق ما قرره ترمب، بناء على طلب تقدمت به منظمتان تحويان شركات ومنظمات غير حكومية مستفيدة من أموال المساعدات، باءت بالفشل، بل نتج منها، أو ربما سرعت من وتيرتها خطوات أكثر تشدداً، أبرزها تسريح نحو 1600 موظف كانوا يعملون في الوكالة في أميركا، مع وضع الباقين في "إجازة إدارية".
الوكالة التي تتمتع بصفة مستقلة، التي جرى تأسيسها بقانون صادر عن الكونغرس في عام 1961، وتدير موازنة تقدر بنحو 42.8 مليار دولار، تجد نفسها اليوم في مواجهة صريحة ومباشرة مع الوجه الحقيقي للمساعدات. إنه الوجه السياسي، حيث الحزب الجمهوري، ومعه أغلب التيارات اليمينية طالما اعتبرت الوكالة "إهداراً للأموال العامة في الخارج"، وأن الأحق بهذه الأموال الطائلة فكرة أو إدارة أو مبدأ "أميركا أولاً".
استثناءات مسببة تعقبها تهديدات
لم تستثن من مبدأ "أميركا أولى بأموالها" سوى: المساعدات الغذائية الطارئة، والتمويل العسكري الأجنبي لإسرائيل ومصر، لأسباب سياسية واضحة حتى ولو لم يتم سردها علناً، على أن جرى اتخاذ قرارات في شأن مواصلة البرامج أو تعديلها أو إلغائها بعد المراجعة في غضون 85 يوماً.
وقتها لم يذكر شيء عن المساعدات العسكرية الأميركية المقدمة لأوكرانيا، وهي التي جرى الإعلان عن إيقافها قبل أيام في أعقاب اجتماع البيت الأبيض العاصف. الطريف أو اللافت أن ترمب عاد بعد أيام من الإعلان عن استثناء مصر من وقف المساعدات، وقال إنه يمكن وقف المساعدات لكل من مصر والأردن في حال رفضا استقبال أهل غزة، وذلك ضمن مخطط التهجير، الذي بات يعرف إعلامياً بـ"ريفيرا غزة".
الأسئلة الثلاث
هذه التحركات الكاشفة الخطيرة واللحظات المعرفية العميقة تجلت في ما قال وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو عن المساعدات الموقوفة والخاضعة للمراجعة والمهددة بالإلغاء. قال عبر بيان: "كل دولار ننفقه، وكل برنامج نموله، وكل سياسة ننتهجها، يجب تبريرها بالإجابة على ثلاث أسئلة بسيطة: هل يجعل ذلك أميركا أكثر أماناً؟ هل يجعل أميركا أقوى؟ هل يجعل أميركا أكثر ازدهاراً؟".
الأسئلة الثلاث يمكن اعتبارها الحقيقة العارية للجانب الأكبر من منظومة "المساعدات الأجنبية" ومسمياتها من معونة إنسانية ومنح تنموية وهدايا إنسانية إلى آخر القائمة التي تواجه أزمة وجودية تاريخية هذه الأيام.
"أميركا ليست وحدها أولاً". تسير في ركابها، فرنسا وألمانيا والسويد وفنلندا وبريطانيا، بسرعات متفاوتة ومحتويات تقليص وتوقيف وإلغاء متراوحة.
رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر قرر قبل أيام، وفي أعقاب قرارات الإدارة الأميركية "الجريئة" في هذا الشأن، زيادة الإنفاق الدفاعي عبر خفض موازنة المساعدات الخارجية. خفض القرار حصة المساعدات البريطانية الخارجية من 0.5 في المئة إلى 0.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي نحو ستة مليارات جنيه استرليني (نحو 7.6 مليار دولار) سنوياً تذهب للإنفاق العسكري.
الإنفاق العسكري أولاً
ومن "الإنفاق العسكري أولاً" في بريطانيا، إلى "أولويات الداخل في فرنسا أولاً". هذا العام، جرى خفض المساعدات الفرنسية بمقدار 2.1 مليار يورو في مشروع قانون الإنفاق لعام 2025. وبحسب تقرير عنوانه "في الولايات المتحدة، كما هي الحال في فرنسا، أصبحت فلسفة المساعدات الإنمائية الخارجية برمتها مهددة" نشرته صحيفة "لوموند" الفرنسية، جاء أن المساعدات الأميركية هي الأكبر في العالم، إذ بلغت موازنتها 64.7 مليار دولار في عام 2023، لذلك فإن تعليق أو إلغاء أو تقليص جزء من المساعدات الفرنسية لن يؤدي إلى تعليق مئات برامج المساعدات الصحية أو الغذائية، لكنه يأتي في وقت توقفت معدلات انخفاض الفقر العالمي للمرة الأولي منذ ثلاثة عقود، ناهيك باختناق الدول ذات الدخل المنخفض تحت وطأة ديونها وأوضاعها الاقتصادية الصعبة.
ويحذر تقرير الصحيفة الفرنسية من أن "الوكالة الفرنسية للتنمية" لن تتمكن من فعل الكثير للدول الفقيرة وذات الدخل المنخفض. وستضطر إلى تقليص المنح والقروض المدعومة، التي تعود بالنفع على أفقر الدول، ومعظمها في أفريقيا.
وسيضطر قطاع المساعدات الإنسانية للعمل بمبلغ 500 مليون بدلاً من 900 مليون يورو سنوياً، وذلك في وقت تتضاعف حدة الأزمات من غزة إلى الكونغو الديمقراطية عبر السودان.
ألمانيا أولاً
ومن "فرنسا أولاً" إلى "ألمانيا أولاً"، وخطوات تمضي على نهج تخفيض المساعدات الأجنبية بشكل كبير منذ أشهر. وكانت الحكومة الفيدرالية قد بدأت بالفعل العام الماضي في وضع خطط لإنفاق مليار يورو فقط على المساعدات الإنسانية الخارجية، وهو نصف المبلغ المتاح في الموازنة لهذا البند. هدف ألمانيا تقديم مساعدات لعدد متزايد من المحتاجين بموارد أقل، هو أمر بالغ الصعوبة.
وقتها، قالت وزيرة الدولة في وزارة الخارجية الألمانية سوزانا باومان، بنبرة غير راضية عن التخفيض، إن ألمانيا ليست وحدها الماضية قدماً في تخفيض المساعدات، لكنّ دولاً أخرى مثل فرنسا وبريطانيا تسيران على النهج نفسه. والتوقعات تشير إلى استمرار تخفيض المساعدات الألمانية، وإعطاء الأولوية للدفاع.
خطوات مماثلة تجري في السويد أيضاً، بين وقف لتمويل "أونروا" ضمن دول أخرى لأسباب سياسية، وربط تقديم المساعدات لدول بعينها بالسياسات المتبعة في هذه الدول للسيطرة على موجات الهجرة واللجوء، وذلك بهدف تقليل أعداد طالبي اللجوء إليها.
وفي العام الماضي أيضاً، اقترحت الحكومة السويسرية موازنة قدرها 11.27 مليار فرنك سويسري (12.4 مليار دولار أميركي) لتمويل خطط التنمية الدولية للفترة 2025 - 2028، لكن البرلمان حدد سقف الإنفاق بـ 11.12 مليار فرنك، مقارنة بـ 11.25 ملايين فرنك في الفترة 2021 - 2024.
هولندا خفضت 30 في المئة من قيمة برامج مساعداتها، ووجهت قيمة هذه الأموال لخدمة المصالح الهولندية. كذلك فعلت بلجيكا التي خفضت مساعداتها 25 في المئة، وفرنسا 37 في المئة.
اليمين والهجرة
تشير ورقة عنوانها "المساعدات الأجنبية في زمن الشعبوية اليمينية" (2024) نشرها "مركز التنمية العالمي" (مقره واشنطن ولندن) أن حجم ونوع المساعدات الخارجية التي تقدمها دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية يتأثران بالتركيبة السياسية للحكومات. يشار إلى أن وزيرة التجارة الخارجية والتنمية الهولندية رينيت كليفر كانت قد دعت في السابق إلى إلغاء المساعدات الخارجية كلية.
وفي بريطانيا، جاء في بيان حزب الإصلاح مقترح بخفض 50 في المئة من المساعدات الخارجية. ويريد "حزب البديل من أجل ألمانيا" و"الديمقراطيون السويديون" إلغاء مساعدات التنمية من الاتحاد الأوروبي تماماً، وربط المساعدات الألمانية- السويدية بالدول الشريكة الراغبة في قبول عودة المهاجرين.
تجدر الإشارة إلى أن الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا لا تميل إلى إلغاء المساعدات الخارجية كلية، فقط تعمل على إعادة توجيهها صوب احتواء أعداد المهاجرين واللاجئين من المنبع، بدلاً من دعم برامج التنمية في هذه الدول.
تقلص المنح وتوسع الصراع
الاتجاه نحو تقليص المساعدات الخارجية من قبل الدول المانحة يتزايد ويترسخ، وذلك في الوقت الذي تتزايد فيه رقعة الصراعات والكوارث بأنواعها. وبينما يظن البعض أن الصراعات والحروب حكر على دول العالم الثالث المستحقة للدعم والمنح والمساعدات، فإن ما يجري من تقليص للمساعدات في الدول المانحة وثيق الصلة أيضاً بالصراع والدفاع.
تلويح الرئيس ترمب غير مرة بتقليص الدعم الأميركي الموجه لأوروبا دفع الدول الأوروبية إلى الهرولة بحثاً عن بدائل لتعزيز البرامج الدفاعية في بلادهم، لدرجة طرح مقترحات بإنشاء بنك دفاع أو صندوق مشترك أو آلية محددة الغرض تقوم على اقتراض رأس المال من الأسواق لتأمين الأهداف الدفاعية في الدول المشتركة.
هاجس الدفاع لدى الدول الأوروبي، الذي أججه ترمب بتهديده المستمر للدول الأوروبية بضرورة حماية نفسها تارة، ووقف المساعدات العسكرية لأوكرانيا تارة أخرى، ما يعني تهديداً مباشراً لها.
البيت الأوروبي
الدول الأوروبية التي ترفع راية "ما يحتاجه بيتك يحرم على الجامع" (المسجد)، سواء كانت هذه الاحتياجات دفاعية أو وعود انتخابية بحزم رعاية اجتماعية أكبر أو توفير فرص عمل أو المزيد من الإنفاق على التعليم والصحة والسكن وغيرها، أو كانت تلبية لميل اليمين المتشدد بشكل عام الذي لا يرى جدوى أو فائدة في تخصيص مليارات لشعوب الغير، لا سيما حين لا تكون هناك حدود مشتركة أو تاريخ وثقافة متشابهة أو لون وعرق وانتماء متطابقة تسطر هي الأخرى، بعد أميركا أول صفحات العصر الجديد من المساعدات الأجنبية في العالم بمقاييسه الجديدة، أو كما أسمته "فاينناشيال تايمز" في مقال عنوانه "هل تستطيع المساعدات الدولية البقاء في عالم يتهاوى؟" (2025). ويرجح أن تستمر الحكومات الغربية في تقليص المساعدات الدولية، وما يتبقى منها يصبح الأداة الأكثر وضوحاً للمصالح الجيوسياسية.
وفي وسط الحديث عن برامج علاج مرضى "الإيدز" في 50 دولة، وتأمين التحصينات ضد شلل الأطفال والحصبة وغيرها لم يعد مؤكداً، ووصول المساعدات الغذائية والعلاجية العاجلة في دول متأثرة بالصراعات والأزمات بدأ يتأثر سلباً، والقائمة ستطول، بدأت المراكز البحثية والاستشارية تتطرق إلى ضرورة إقامة حوار بناء بين الدول المانحة من جهة، ودول الجنوب المتلقية للدعم والمعتمدة على المساعدات من جهة أخرى.
معنى تراجع المساعدات
بدأت بشائر الصفحة الجديدة تظهر بالفعل. تشير ورقة عنوانها "أولاً إغلاق الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، ثم خفضت المملكة المتحدة مساعداتها: ما الذي قد يعنيه تراجع الغرب عن المساعدات الخارجية؟" نشرها "تشاتام هاوس" أو المعهد الملكي للشؤون الدولية (2025) أن العيوب التي تشوب نموذج المساعدات الأجنبية الغربي معروفة، وأبرزها خلق تبعيات غير مستدامة في الدول المتلقية للمساعدات تجعلها دائمة الاعتماد على المساعدات، إضافة إلى عدم شعبية ملف المساعدات في الانتخابات، لا سيما في المناطق التي يواجه سكانها مشكلات تتعلق بتكاليف المعيشة.
يرى مؤلفا الورقة مديرة "برنامج بريطانيا في العالم" في المعهد أوليفيا أوسوليفان والباحث جيروم بيوري أن إدارة ترمب لا تريد أن تحسن نموذج المساعدات، أو إعادة رسم خطوط المساءلة للحصول على نتائج أفضل، بل تهدف إلى التخلي عن دورها المركزي في تمويل المساعدات الإنسانية والتنموية في العالم. ويحذران من أن تراجع الغرب عن المساعدات سيفسح المجال لـ"القوى الرجعية" لبناء مزيد من النفوذ في الدول النامية. وأشارا إلى أن الصين، على سبيل المثال، تواصل توسعاتها الاستثمارية في أفريقيا، إضافة إلى إعلانها الالتزام بتقديم قروض ومساعدات قيمتها 51 مليار دولار على مدى ثلاث سنوات.
الجميع خاسر
قرار الرئيس ترمب تجميد برامج المساعدات لعشرات الدول الواقعة في صراعات أو التي تعاني مشكلات فقر وجوع وانهيار أنظمة صحية وخدمية وغيرها يهدد حياة الملايين من الناس حول الأرض، وهو التهديد الذي يتفاقم بهرولة دول أوروبية عدة لتقليص إنفاقها على المساعدات الخارجية هي الأخرى.
الآثار الوخيمة بدأت بالفعل تلقي بظلالها على الدول المستقبلة للمنح، والقادم لا يبشر بخير. وعلى رغم ذلك، فإن الضرر الذي سيلحق بأميركا وغيرها من الدول المانحة التي تصارع الزمن من أجل اللحاق بالصفحة الجاري طيها من صفحات المساعدات، لن يقل وطأة عن الدول النامية.
أول الضحايا مصداقية الدول المانحة التي ظلت عقوداً تتحدث عن الواجب الإنساني، والتلاحم البشري، وعدم ترك أحد خلف ركب التنمية. وتتوالى الخسائر بين فقدان التحالفات وتعرض الاقتصادات المتخلي عنها لعدم الاستقرار، ومن ثم فتح الباب أمام القوى المتنافسة مثل الصين وغيرها، وكذلك تمهيد الطريق أمام الجماعات المتطرفة والمتشددة لملء الفراغ الذي لن يترك خاوياً طويلاً.
أغلب الظن أن الميزة الوحيدة وراء صفحة المساعدات الأجنبية الجديدة هي سقوط الأقنعة والحديث عن ملف المنح والمساعدات من دون حرج أو رياء. الجانب الأكبر من المساعدات لا يهدف إلى مكافحة الفقر ومواجهة الحروب والكوارث والتخفيف عن الناس ومد يد العون للدول الصديقة المتعثرة بقدر ما يهدف إلى تحقيق المصالح الاقتصادية والسياسية والأمنية.
لماذا نساعدهم؟
على مدار تاريخ المساعدات الأجنبية، تطرقت آلاف الكتب والبحوث إلى تحليل وتفنيد الدوافع والعوامل التي تجعل دولة تقدم مساعدة أو منحة لدولة أخرى وتقدم منحة أكبر أو أقل لدولة ثالثة وتمتنع عن مساعدة دولة أخرى جرى العرف أن تقول الدول المانحة إنها تقدم المساعدات بحسب حالة الدول ومدى احتياجها للمساعدة التي تدفع بها إلى مسيرة التنمية، إضافة إلى كونها "دولاً صديقة".
وجرى العرف أيضاً أن تبحث الأوراق والمؤلفات في حجم والمصالح الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي تجعل دولة ما تضع أخرى على قوائم المتلقين للمساعدات، مثل الأهمية الاستراتيجية للدولة المتلقية ومدى أهميتها وقدرتها في الحفاظ على مكانة أو هيبة أو مصلحة الدولة المانحة.
عادة كان الخبراء والمتخصصون يختلفون في تحديد الآثار المترتبة على تلقي هذه المساعدات الخارجية، وهل التخلي عنها أفضل؟ وبين فريق يرى أن للمساعدات الخارجية آثاراً إيجابية تتمثل في تنشيط الاقتصاد وزيادة نسب الادخار ومساعدة الدول على اجتياز المراحل الصعبة في تحقيق التنمية، وآخر يرى أن طريقة إدارة الدول المتلقية للمساعدات قد تلحق بها الضرر، وثالث يلقي باللوم على الدول المانحة التي تحيط أموال المعونة بقيود وشروط قد لا تكون الأمثل في حالة بعض الدول، غاب الفريق الذي توقع أن تستيقظ الدول المتلقية للمنح ذات صباح وقد انقطعت عنها المساعدات وتوقفت المنح والبرامج والمبادرات، لتكتشف إنها كانت في حال اعتماد شبه كلي على عامل متغير ويفترض إنه مؤقت، وليس مستداماً.
السياسة والأيديولوجيا والمصالح
السياسة والأيديولوجيا والمصالح تطل برأسها وعقلها وقلبها في الصفحة الجديدة للمساعدات والمنح الخارجية. الصعود الواضح لليمين المتشدد في عديد من الدول الأوروبية المانحة، حتى لو لم يصعد لسدة الحكم، يضع ضغطاً كبيراً على هذا البند في تلك الدول. أولويات الناخبين في الدول المانحة لم تعد تنظر إلى المساعدات الأجنبية باعتبارها أولوية أمام الضغوط الاقتصادية، والصراعات المنتشرة، وكذلك أعداد المهاجرين واللاجئين الضاغطة. ونعومة السياسة ومرونة الدبلوماسية وسلاسة الإنسانية فقدت مكانتها، على الأقل مؤقتاً، وتحل محلها وجوه كاشفة لواقع العالم الجديد، حيث الأولويات مختلفة، والمساعدات في أضيق الحدود، ومحسوبة بورقة اليمين وقلم المصالح.
الصفحة الجديدة في مسيرة المساعدات الأجنبية قاتمة. فالفراغ الذي ستتركه المساعدات الموقوفة أو المجمدة أو الملغاة سيملأه أحدهم. وفطام المِنَح لا يحدث بين يوم وليلة، حتى وإن انتهج نموذج المساعدات على مدار عقود نهجاً خاطئاً نتجت منه دول متكلة، وأخرى متكل عليها. أعراض الانسحاب ستتجلى إن عاجلاً أو آجلاً. المؤكد أن الجميع خاسر، على الأقل على المدى القريب، إن لم يكن لخطأ القرار، فلتهوره أو تسرعه أو كليهما.
أمينة خيري