
جدَل الفصل والوصل بين النبوة والخلافة والمُلك
في حياة نبي الإسلام محمد كان السؤال هو هل النبوة شيء آخر غير المُلك؟
من المناسبات التي أثير فيها هذا السؤال، ذلك الحوار الشهير الذي دار بين العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان أمام العرض العسكري لكتائب المسلمين على أبواب مكة عند الفتح، والنبي يتوسط إحدى الكتائب، إذ يلتفت أبو سفيان فيخاطب العباس:
يا أبا الفضل لقد أصبح مُلك ابن أخيك عظيماً،
فيرد العباس: ويحك إنها النبوة.
فقد رأى أبو سفيان -وهو معذور في ما رأى- في منظر الجُند المنتظم لمحة مألوفة من لمحات وخطط الدولة والمُلك، غير أن العباس، لسبب أو لآخر، لم يعجبه هذا الرأي، وفضّل اعتبار الجُند من مكملات النبوة نفسها لتأسيس الدين، ولعله أراد القول أن النبوة رتبة أدبية أرفع من رتبة المُلك.
وقد انقسم المسلمون حول هذه النقطة، فيما بعد، إلى فريقين:
فريق ينزّه النبي عن أن يكون "ملكاً" من جُملة المُلوك، ويقول أنه نبيّ ورسول فقط، وأن هذه المنزلة منحة من الله لا تورَّث بالنسب، ومحمد هو خاتم الأنبياء والمرسلين، وهؤلاء هم أهل السنّة.
وعلى هذا الأساس، نظر هذا الفريق إلى تولِّي أبي بكر الصديق الخلافة، وليس أي شخص من أقارب النبي، على أنه العمل الأكثر حكمة بل والأكثر اتفاقاً مع مقتضيات هذا التنزيه ومع الصفة التي أراد النبي محمد أن يتصف بها إلى آخر لحظة من حياته المليئة بالسمو والعظمة.
فالخليفة، في المفهوم النظري السنّي، هو نائب عن النبي في حفظ الدين وسياسة الدنيا، وليس بأي حال استمراراً للنبوة.
أما الفريق الثاني، وهم "الشيعة" وبعض فلاسفة العرفان، فلم يعترفوا بالتمييز بين النبوة والمُلك، وقالوا بالوارثة لمنزلتي النبوة والمُلك معاً، وجمعوا المنزلتين تحت لقب "الإمام"، وهي رتبة دينية ودنيوية يشترطون فيها إلى الأبد النسب العَلَوي الفاطمي.
بعد وفاة النبي أصبح السؤال هو هل الخلافة شيء آخر غير النبوة والمُلك؟
بمعنى هل الخلافة، كمنصب ووظيفة، هي من جنس المُلك والسلطنة [الدولة عموماً] أم أنها من جنس النبوة، وهل هي رتبة في الدين أم رتبة دنيوية، أم هي الشيئين معاً: رئاسة في الدنيا والدين!
ولقد رُوي أن عمر بن الخطاب أول من أثار هذا السؤال في مواقف متعددة، حيث كان يبادر بطرحه على من يصادفهم: أملكٌ أنا أم خليفة؟
ولا يسع المرء إلا أن يبتسم أمام هذه الصراحة النقية في مواجهة الحيرة والالتباس.
جاء في الطبقات الكبرى لـ ابن سعد أن سلمان رد على سؤال عمر بالقول: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهما أو أقلَّ أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه، فأنت ملك غير خليفة!
فاستَعبَرَ (بَكى) عُمر.
وفي رواية أخرى أن عمر قال: والله ما أدري أخليفة أنا أم ملك! فإن كنت ملِكاً فهذا أمر عظيم!
قال قائل: يا أمير المؤمنين! إنَّ بينهما فرقاً.
قال عمر: ما هو؟
قال: الخليفة لا يأخذ إلا حقاً، ولا يضعه إلا في حق، وأنت بحمد الله كذلك، والملك يعْسِف الناس فيأخذ من هذا ويعطي هذا.
ما نفهمه من الأجوبة التي حصل عليها عمر هو أن الخليفة في تصور المسلمين الأوائل لا يعدو أن يكون حاكماً عادلاً، وهذا مجرد تصوّر أخلاقي للمُلك والدولة، وليس فصلاً لجوهر الخلافة عن جوهر المُلك والدولة.
ثمة سؤال آخر أقل أهمية أثير بعد وفاة النبي حول ما إن كان الخليفة "خليفة الله" أم "خليفة رسول الله".
تجدر الإشارة إلى أن لفظ "خليفة" استُخدم في البداية للدلالة على من يخلف رسول الله خلال مدة مرضه في إمامة الصلاة بالمسلمين، واتسع مدلول اللفظ بعد وفاته فأصبح يحيل إلى خلافته في الصلاة وفي قيادة المسلمين، ولهذا كان أبو بكر الصديق هو أول من حمل لقب خليفة.
وبين الصيغتين "خليفة رسول الله" أو "خليفة الله" اختار أبو بكر الصيغة الأولى.
ثم استحدث عمر بن الخطاب في عهده لقباً إضافياً للخليفة هو "أمير المؤمنين"، ولفظ "أمير" كما نعرف يحمل مدلولات متعددة، عسكرية وسياسية.
غير أن السؤال النظري عما إذا كان هناك فرق جوهري بين الخلافة والمُلك، قد بقي مطروحاً إلى اليوم.
أما على المستوى العملي، فقد تكفلت التجارب التاريخية المتعاقبة بالبرهنة على أن "الخلافة" هي في جوهرها من جنس الدولة والمُلك، أي أنها سلطنة ورئاسة عامة، سواءً كانت وراثية وهو الغالب، أو غير وراثية كما كان الحال في الأربعة الخلفاء الأوائل.
وكان ابن خلدون، في القرون اللاحقة، قد اجتهد فقال إن ما يميّز "الخلافة الراشدة" عن "المُلك" أن الوازع في الأولى ديني وفي المُلك الوازع السيف والعصبية،
فهل كان يقصد أن الوازع ديني من جهة الرعايا أم من جهة السلطة [خلافية كانت أم ملوكية]؟
بمعنى هل يقصد أن وازع الطاعة عند الرعايا -في حالة الخلافة الراشدة- ديني ذاتي لا إكراه ولا قهر من الخارج؟
أم يقصد أن الخلافة تستعين بالوازع الديني لإكراه الناس على الطاعة، بينما يكتفي المُلك بالسيف والعصبية لفرض الطاعة؟
إن كان المعنى الأول،
فالتاريخ يدحض وجود هذا الفارق بين الخلافة والمُلك، فحروب الردة مثلاً تدل على أن الخليفة الراشد الأول لجأ إلى السيف لإعادة الناكثين إلى الطاعة، ما يعني أن الوازع لم يكن دينياً!
بل حتى النبي مارس الغزو والفتح ولم يكن الوازع إلى الطاعة ديني ذاتي في جميع الأحوال.
وإن كان المعنى الثاني، فالخلافة الراشدة مثلها مثل الخلافات اللاحقة، السلطانية الوراثية، بررت أعمالها دينياً لفرض النفوذ والطاعة.
الملاحظ أن ابن خلدون لم يجعل من التوريث العلامة التي يمتاز بها "المُلك السياسي" عن "الخلافة الراشدة"، وإنما ميز بينهما باختلاف الوازع هنا وهناك.
ما يعني أن المُلك الوراثي إذا كان الوازع فيه ديني يصح أن يقال عنه خلافة.
في موضع آخر من تاريخه، وبعد أن يقرر أن معاوية خليفة راشد وملِك في آن، يتوصل ابن خلدون إلى نفي الفرق بين المُلك والخلافة والنبوة من حيث الوظيفة، إذ يقول: "وأماً المُلك الذي هو الغلبة والقهر بالعصبية والشوكة فلا ينافي الخلافة ولا النبوة فقد كان سليمان بن داود وأبوه صلوات الله عليهما نبيين وملكين كانا على غاية الاستقامة في دنياهما وعلى طاعة ربهما عز وجل".
وهكذا، فإن ابن خلدون كما رأينا قد استدل على جواز اجتماع المُلك والنبوة بمثال مأخوذ من التاريخ التوراتي المُصادَق عليه في القرآن (داود وسليمان)، ما يعني أن ابن خلدون -بما أنه سُنّي- ينزّه النبي محمد عن أن يكون ملكاً، ولكنه لا ينزه "النبوة" من أن يمازجها المُلك كما حدث في القرون السابقة لبعثة محمد.
قبل حولي 600 عام، أفردَ المؤرخ المصري العظيم تقي الدين المقريزي (تلميذ ابن خلدون)، كتاباً صغيراً للبحث في أصول "النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم".
ورغم ميله العاطفي لـ بني هاشم، إلا أن الأدلة المنطقية والقرائن التاريخية انتهت ببحثه إلى نتيجة مثيرة مفادها أن المقدمات الأولى لاستلام بني أمية الحُكم كانت قد بدأت عملياً بمجموعة تعيينات ذات مغزى أصدرها النبي نفسه قبل موته.
يحصي المقريزي "الولايات" والتكليفات التي حصل عليها بنو أمية من النبي في أواخر حياته:
فقد كان عمّاله على مكة والطائف ونجران وكندة واليمن وعُمان والبحرين وتيماء وخيبر وفدك كلهم أمويون أو حلفاء لبني أمية، ولم يكن في عمال الرسول ولا في عمال أبي بكر وعمر أحد من بني هاشم.
ثم يعلّق المقريزي على ذلك بالقول: "فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسَّس هذا الأساس وأظهر بني أمية لجميع الناس بتوليتهم أعماله فيما فتح الله عليه من البلاد، كيف لا يقوى ظنهم، ولا ينبسط رجاؤهم، ولا يمتد إلى الولاية أملهم؟
أم كيف لا يضعف أمل بني هاشم وينقبض رجاؤهم ويقصر أملهم وكبيراهم العباس بن عبد المطلب، وابن أخيه على بن أبي طالب رضی الله عنهما يريد أحدهما استعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته عن هذا الأمر، هل هو فيهم أم فى غيرهم ويأبى الآخر ذلك؟"، (المقريزي، "النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم"، ص74).
وفي تفسيره لإغداق النبي كل تلك الولايات على بني أمية، لم يبتعد المقريزي عن وجهة نظر أهل السنة من أن النبي محمد بقراراته تلك لم يشأ أن يتصرف كـ ملك، أو يترك أدنى انطباع قد يخدش الصورة التي أراد ثبوتها في نفوس المؤمنين عن منزلته الجليلة باعتباره النبي الخاتم الذي أرسله الله رحمةً للعالَمين.
محمد العلائي
صحافي يمني