إسرائيل والجبهة اليمنية
تشغل معادلة الردع الإسرائيلي وتحوّلاتها المجال الإقليمي، فتدفعه نحو مزيدٍ من التصعيد. فبموازاة تبنّي خيار القوة العسكرية في قطاع غزّة، وأيضاً الجبهات المحاذية للأراضي المحتلّة، يحرص الكيان الإسرائيلي على إدارة الجبهة اليمنية من خلال تبنّي خيارات متنوّعة تمكّنه في النهاية من تفعيل آلية حاسمة لردع جماعة الحوثي، وكيل إيران.
في المقابل، وتبعاً لمقتضيات الدور الإسنادي للمقاومة الفلسطينية وأهدافه، تسعى الجماعة في ظلّ تحولات القوة لصالح إسرائيل إلى تثبيت موقعها في معادلة الإسناد، وإن جرّ عليها ذلك عواقبَ وخيمة.
تتضمّن غايات عقيدة الردع الإسرائيلي ضرورة تثبيت هيمنتها العسكرية في محيطها الداخلي والإقليمي، الذي يستوجب سيطرتها على آليات القوة الرادعة لفرض شروطها السياسية على خصومها، إلى جانب حماية أمنها على المدى البعيد.
وإذا كانت تحوّلات موازين القوة في المعادلة الإقليمية قد أفضت إلى تقليص نفوذ إيران وإضعاف وكلائها، ومن ثمّ شلّ قدرتها على استهداف إسرائيل، بشكل مباشر أو عبر وكلائها، فإن إدارة الجبهة اليمنية، التي تحوّلت ساحةً رئيسةً في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، باتت تشكّل تحدّياً أمنياً ملحّاً لإسرائيل،
بيد أن ترجيح الاستراتيجية الإسرائيلية، بما في ذلك تقديراتها الأمنية، بأن جماعة الحوثي "مجرّد عرضٍ مرضيٍّ لإيران"، بحسب تصريح رئيس الحكومة الإسرائيلية أخيراً، أي إن فاعليتها العسكرية وكيلاً لإيران تتأتّى من دعم حليفها، لا من قوّتها الموضوعية في الأرض، ومن ثمّ يقتضي وقف تهديداتها لإسرائيل توجيه ضربة عسكرية مباشرة إلى إيران،
وهو ما ترتّب عليه، إلى حدّ كبير، ربط إدارة إسرائيل الجبهة اليمنية مع حساباتها السياسية في التعاطي مع إيران.
ومع فشلها في إعاقة المسار التفاوضي بين الإدارة الأميركية وإيران في الملفّ النووي الإيراني، الذي قلّص فرص توجيه ضربةٍ عسكريةٍ مباشرة إلى إيران في الوقت الحالي، ضاعف استمرار التصعيد في الجبهة اليمنية، ساحةَ إسناد للمقاومة في غزّة، من مستويات المخاطر التي تواجهها، إلى جانب التأثير في إدارة حربها في قطاع غزّة، سواء مضت في الخيار العسكري مستقبلاً، أو قبلت المقترح الأميركي لوقف إطلاق النار.
في المقابل، وبموازاة تعقيدات إدارة الجبهة اليمنية، والحسابات السياسية الإسرائيلية، شكّل بُعد اليمن جغرافياً عاملاً رئيساً في إعاقة آلية الردع العسكري الإسرائيلي ضدّ جماعة الحوثي، إذ أكّد استمرار عملياتها العسكرية عجز الحكومة الإسرائيلية عن تطويق التهديدات القادمة من الجبهة اليمنية، إضافة (وهو الأهم) إلى فشلها في كسر حالة الحظر البحري الذي فرضته الجماعة على مرور السفن التجارية الإسرائيلية في البحر الأحمر.
ومع أن الكيان الإسرائيلي ظلّ يوازن إدارته للجبهة اليمنية ما بين علاقته المتغيّرة بعدوّه الإيراني (وأولوياته في الجبهات الجغرافية المحاذية له) والمضي بتوجيه ضربات عسكرية إلى الجماعة، بما في ذلك اعتماده على حليفه الأميركي في شلّ تهديداتها،
فإن تحوّل الملفّ اليمني بالنسبة إلى الإدارة الأميركية في الوقت الحالي إلى ملفّ ثانوي، ترتّب عليه ضرورة تغيير الاستراتيجية الإسرائيلية في التعاطي مع الجماعة، خاصّة مع استمرار تصعيد عملياتها ضدّ إسرائيل، التي أفضت إلى إرباك حركة الملاحة الجوية في مطار بن غوريون، وتكبّدها خسائرَ اقتصادية.
ولذلك، فرضت هذه العوامل على الحكومة الإسرائيلية كما يبدو نقل معركتها ضدّ الجماعة إلى مستوىً جديد، سواء كان بضوء أميركي أم لا، بتبنيها استراتيجية فرض حصار بحري وجوي على اليمن، تعمل في مسارَين مترابطَين، تدمير المنافذ البحرية التي تشرف عليها سلطة جماعة الحوثي، ومن ثمّ فرض شكل من الحصار الاقتصادي في الوقت الحالي، وفي المدى البعيد، إلى جانب تعطيل مطار صنعاء الدولي، المنفذ الجوي الوحيد للجماعة، ومن ثمّ فرض مستوىً من العزل السياسي والدبلوماسي، إلى جانب تفعيل آلية الضغط الاقتصادي.
قد تعيق الاستراتيجية الإسرائيلية بفرض حصار جوي وبحري على اليمن أسباباً عديدة، فإلى جانب البعد الجغرافي الذي قد يحدّ من إمكانية فرض حصار اقتصادي شامل أو جزئي، وبشكل خاص المنافذ البحرية، أي موانئ مدينة الحديدة الخاضعة لسلطة الجماعة، إذ يقتضي ذلك تبنّي استراتيجية واضحة وشاملة تدفع إلى وضع المنافذ البحرية تحت حالة حصار، ومن ثمّ حظر دخول السفن إلى الموانئ اليمنية،
وأيضاً تثبيت آلية رقابية تقيّد حركة التجارة، بما في ذلك وقف تدفّقات السلع ومشتقّات الوقود إلى الموانئ الخاضعة لسلطة الجماعة،
ومع صعوبة تحقيق ذلك واقعياً، قد يلجأ الكيان الإسرائيلي إلى خياره المعتاد، أي الهجوم العسكري، وذلك باستهداف الموانئ الخاضعة للجماعة، إلى جانب تعطيل الملاحة الجوية في مطار صنعاء الدولي.
بيد أن ذلك، ومع تبعاته الاقتصادية، يعني تكبّد الكيان الإسرائيلي كلفةً اقتصاديةً مترتبةً من استمرار هجماته على اليمن، ومع أنه قد يراهن على العقوبات الأميركية ضدّ الجماعة لتقييد بناء قوتها العسكرية، إلى جانب مفاعيل الرقابة الأممية والأميركية على حظر دخول السلاح إلى اليمن،
وأيضاً الاستفادة من الدعم اللوجستي والفنّي لحليفه الأميركي لخوض معركة ردع الجماعة، فإن تطوّرات حرب الكيان الإسرائيلي في قطاع غزّة قد تؤثّر في إدارته الجبهة اليمنية، سواء في الوقت الحالي أو في المستقبل.
ففي حين يسعى الحليف الأميركي إلى دفع الكيان الإسرائيلي إلى قبول مقترح وقف إطلاق النار، فإن مضيّه في هذا الخيار، مع بقاء حركة حماس تهديداً دائماً بالنسبة إليه، إلى جانب عدم حسم الجبهة اليمنية، تعني فشل الكيان الإسرائيلي في إدارة ردعه قوى المقاومة،
كما أن استمرار نهجه التصعيدي، في قطاع غزّة أو في الضفة الغربية، قد يضعه تحت طائلة عقوباتٍ اقتصاديةٍ من شركائه الأوروبيين، ومن ثمّ مضاعفة التحدّيات الاقتصادية التي يواجهها، إلى جانب أن تصعيد عملياته في قطاع غزّة يُفقده تضامن حلفائه الدوليين، ومن ثم خسارته أرضيةً سياسيةً يعوّل عليها لاستمرار معركته ضدّ "حماس"، وأيضاً ضدّ جماعة الحوثي،
فضلاً عن محدودية نتائج الردع العسكري ضدّ الجماعة، فبعد هجومه أخيراً، الذي طاول مطار صنعاء، استأنفت الجماعة هجماتها على مطار بن غوريون،
ومن ثمّ فإن الكيان الإسرائيلي ملزمٌ كما يبدو لتحييد الجبهة اليمنية بوقف حربه في قطاع غزّة أولاً، ما يدفع إلى خفض التوترات الإقليمية، ووقف التهديدات القادمة من اليمن.
في حالة جماعة الحوثي، تقتضي مواجهة الردع الإسرائيلي، وإسناد المقاومة الفلسطينية، في المقام الأول استراتيجيةً سياسيةً تعمل على توظيف البعد الديني والعقائدي للقضية الفلسطينية، بما في ذلك الجرائم الإسرائيلية في قطاع غزّة، لتحسين موقعها في معادلة الإسناد،
بيد أن افتقارها إلى إمكانات عسكرية نوعية، تقوّض أيّ إمكانية لإدارة معركة متكافئة مع إسرائيل، إلى جانب إعاقاتٍ تتأتّى من أنها سلطة أمر واقع، يعطّل فرصها في مواجهة الردع الإسرائيلي،
فضلاً عن إسناد المقاومة الفلسطينية، يجعلها وقوعها تحت طائلة العقوبات الاقتصادية الطرفَ الأضعف، كما أن كلفة حروبها الإسنادية (حتى اللحظة) جرّاء الغارات الإسرائيلية والأميركية التي استهدفت موانئ الحديدة، تجاوزت المليار ونصف المليار دولار، إلى جانب (وهو الأهم) أنه قد ترتب على الهجمات الإسرائيلية على موانئ مدينة الحديدة شلّ قدرتها التخزينية،
وأيضاً تدميراً شبه كلّي للبنية التحتية للموانئ، وهو ما قلّص من تدفّقات البضائع والمواد الغذائية والمشتقّات النفطية، ومن ثم مضاعفة معاناة المواطنين في المناطق الخاضعة للجماعة، وهو ما يعني في ظلّ التحديات الاقتصادية التي تواجهها الجماعة تجذير أزمتها السياسية سلطةَ أمر واقع،
كما أن إخراج مطار صنعاء من الجاهزية، بما في ذلك تدمير آخر طائرة مدنية من أسطول شركة طيران اليمنية، تعني القضاء عملياً على المنفذ الجوي الوحيد للجماعة، ومن ثم إيجاد مستوى فاعل من العزل السياسي والدبلوماسي، إلى جانب التبعات الاقتصادية المترتّبة على تعطيل الملاحة الجوية في مطار صنعاء، ومن ثمّ فقدان الجماعة موارد مالية ضخمة،
ناهيك عن التبعات الإنسانية بوقف تدفّقات المساعدات الأممية، فضلاً عن استمرار وضع مطار صنعاء في دائرة أهداف الكيان الإسرائيلي في حال استمرار هجمات الجماعة.
تصعيد الجماعة عملياتها العسكرية، وإعلانها فرض حظر بحري على ميناء حيفا المحتلّ، لا يعني تغيير معادلة الإسناد ومواجهة الردع الإسرائيلي،
فعلى الرغم من تصعيد عملياتها لتصل إلى 22 عملية في الشهر الماضي (مايو/ أيار)، فإنّ مجمل هجماتها، وإن أربكت الملاحة الجوية في مطار بن غوريون الإسرائيلي، فقد اتخذت الوتيرة نفسها، من دون تحقيق نتائج ملموسة على الأرض، ونقل الجماعة معركتها ضدّ إسرائيل إلى الصعيد الاقتصادي يعني إقرارها بعجز آلية إسنادها للمقاومة الفلسطينية، تماماً كفشل الكيان الإسرائيلي في تثبيت معادلة الردع، مقابل مضيّها في معركةٍ مكلفةٍ ستصيب أضرارها وتداعياتها الكارثية اليمنيين.
* كاتبة وناشطة يمنية