اليمن: صرخة الروح في دوامة التيه والانقسام
اليمن اليوم، شامخة كشجرة ضاربة الجذور، لكنها تئن تحت معاول التفكك والخراب.
لم تعد الحكمة اليمانية مجرد قول مأثور، بل أصبحت صرخة مدوية في وادٍ سحيق، حيث تلاشت معالم الدولة وانكفأ المجتمع على ذاته، ينهشه شبح التشرذم الذي بات سمة العصر.
إنها مأساة وطن تتجلى فيها أشد صور الاستغلال، حين يصبح الدين، لا سموًا للروح، بل قناعًا لمشاريع التسلط وأداة لتخدير وعي الشعوب.
لقد كانت اليمن، ولا تزال، أرضًا خصبة للعقائد والأفكار، لكنها استُغلّت ببراعة شيطانية.
فمنذ قرون، تسلل إلينا مشروع الإمامة، متسلحًا بعباءة القداسة، ومستغلًا بساطة الناس وطيبتهم.
قاسم الرسي، اسمٌ ارتبط ببدء هذا التيه، لم يأتِ بمذهبٍ هادئٍ يدعو للتقوى، بل بمشروعٍ سلطويٍّ مُغلّفٍ بغلاف الدين، دجّن به سكان شمال الشمال، وجعلهم وقودًا لمآربه السياسية، يُحرّكونهم كيفما شاء باسم "الحق الإلهي" و"الأمر الرباني".
لقد حوّل الجماهير إلى مجرد أدوات، تنتظر الوعد بالجنة مقابل الخضوع، بينما تزداد القيود في حياتهم الدنيا.
وعلى الرغم من أن ثورة السادس والعشرين من سبتمبر المجيدة جاءت لتقويض هذا العرش الظالم وأوهام أحقية الحكم في سلالة بعينها، إلا أن غيوم الجهل لم تنقشع تمامًا.
بقيت التربة خصبة لاستقبال بذور جديدة من الوهم. فالسلطات المتعاقبة، بفسادها وغياب رؤيتها التنويرية، تركت الشعب يرزح تحت نير البؤس والفقر، فأصبح صيدًا سهلًا لكل من يلوّح بفتات الخبز أو بوعود الجنة الزائفة.
هنا، تتكشف المأساة الفلسفية الأعمق: حين يتحوّل الجوع والخوف إلى بوابة للتطرف.
فما إن يجد الإنسان نفسه عاريًا أمام قسوة الحياة، حتى يتشبث بأي قشة توهمه بالخلاص، حتى لو كانت هذه القشة تجره إلى مهاوي الردى.
رأينا كيف تم استقطاب الآلاف من أبناء هذا الشعب المغلوب على أمره، ليصبحوا وقودًا لتنظيمات ظلامية متعددة، من حوثي إلى قاعدة وغيرهم، وكل فريق يبيع بضاعته الفاسدة بوعدٍ جنة خاصة، يقسّمها على "أتباعه المخلصين" حسب مشروعه الإجرامي.
وهكذا، تحول اليمن إلى مسرح لدماء أبنائه، يقتل بعضهم بعضًا، ليس عن قناعة حقيقية، بل نتيجة للبؤس الذي أعمى البصائر، والجهل الذي قتل التفكير، والتخدير الذي أذهب العقول.
إنها معركة الوعي في المقام الأول. فبينما يرى البعض أن مواجهة المشروع السلالي الحوثي المجوسي، الذي يسعى لجعل الناس طبقاتٍ من "السادة والعبيد"، هو أمرٌ مشروعٌ ومقدس، وهذا حقٌّ لا جدال فيه.
فهذا المشروع ليس دينيًا بقدر ما هو سلطوي بحت، يسعى لغرس الجهل والخرافة في أذهان الأجيال، ليُحكم سيطرته على العقول والرقاب.
لكننا ندرك أن الخلاص الحقيقي لا يكمن فقط في إسقاط نظام، بل في استنهاض روح اليمن، ورفع وعي الإنسان، وتحريره من كل أشكال الاستعباد، سواء كان استعبادًا فكريًا أو ماديًا.
اليمن اليوم بحاجة إلى ثورة حقيقية في العقل والضمير، ثورة تقوّض دعائم الجهل وتُعلي من شأن العلم، وتُعزز من قيم المواطنة المتساوية، وتُعيد للدين جوهره الروحي السامي، بعيدًا عن كل تأويلات التعصب والانقسام.
فاليمن، بتاريخه العريق وإرثه الحضاري، يستحق أن ينفض غبار التيه والانقسام، ليُشرق من جديد كمنارة للحكمة والنور.