اليمن: القصيدة التي تكتبها الجراح على جدار الزمن
في اليمن، لا تمطر السماء ماءً فقط، بل تمطر أعمارًا أُهدرت، ودموعًا لم تجد كتفًا، ومواويل من زمنٍ بعيد، كانت تغنيها الجدات لخرابٍ لم يأتِ بعد.
في اليمن، لا تُشرق الشمس كما تُشرق في سائر البلدان. إنها تُشرق مندهشة، مشدوهة، تتساءل كل صباح:
"أما زالوا أحياء؟! أما زالوا يصنعون الخبز من الحطام، والضحكة من تحت الركام؟!"
إنها تشرق على طوابير الماء، والناس يشربون من حفرةٍ كانت يومًا بئرًا.
تشرق على النساء المنتظرات أسطوانة غازٍ متهالكة، وعلى العجائز الواقفين تحت الشمس كالتماثيل، بكرامةٍ مصلوبةٍ على الطوابير.
تشرق على قنّاصةٍ يتمركزون على كل سقف، في كل زاوية، في كل حيّ، كأنهم غربان موت، حوّلوا الشوارع إلى مصائد،
والأطفال إلى أهدافٍ تدريبيةٍ حيّة، بعقيدة فارسية مدفوعة الأجر في طهران، ثم مُعادة التصدير إلى صنعاء، بعدما تم تدريبهم على يد الحرس الثوري الإيراني، ليكونوا شوكةً في حلق اليمن، وغصة لا تنتهي في صدره.
في اليمن، ليس الحلم فقط من يخاف...
بل حتى الطرق تخاف أن يُداس عليها، خشية أن تكون قد لُغّمت في الليل بصمت.
كل شبرٍ من الوطن حقول موت، تمشيه بخطوات مرتعشة، فليس هناك أرض محايدة بين الحياة والهاوية.
الشعب يمشي في وطنه كالغريب، يتنقل بين كمائن الخوف، وحقول العبوات، وعتمة الأفق،
لكن رغم كل شيء... لا ينهار.
يخرج صباحًا وهو لا يملك شيئًا سوى اسمه، ويعود مساءً مثقلًا بكل شيء إلا الخبز.
يصمد وكأن الصمود عقيدة، وكأن الكرامة لا تموت حتى لو مات ألف جسد.
في اليمن، يولد الأطفال وفي أعينهم حزن الحكماء، وتكبر الأمهات وهن يرضعن الوطن من دموعهن.
في اليمن، يمشي الوقت على عكاز من نواح، وكل ثانية تمر، تُشبه كفنًا طُويَ على عجل.
يا الله، أي سحرٍ وضعته في تربة هذه الأرض؟
كيف تحتمل كل هذا الموت دون أن تسقط من السماء صاعقة تنهي المسرحية؟
وكيف ما زالت الجبال صامدة، ولم تهاجر بحثًا عن وطنٍ آخر يحتوي قاماتها؟
في اليمن، الحلم يختبئ تحت الوسادة، خائفًا من العسس.
الخبز يمشي متخفيًا، والجائع لا يصرخ خوفًا أن يسمعه الحاكم، فيعتقله بتهمة "الإرهاب الغذائي".
الكتب تُخبأ كما تُخبأ الأسلحة، والكلمات تُقنص قبل أن تُكتب.
في اليمن، الأملُ خيانة، والحكمةُ تهمة، والصدقُ مؤامرة.
يا هذا العالم، هل جربت أن تصحو في صباحٍ لا كهرباء فيه، لا ماء، لا مستقبل، لا إنترنت، لا أفق؟
هل جربت أن تتحدث إلى نفسك لأنك فقدت أصدقاءك في المقابر الجماعية؟
هل جربت أن تُحب فتاةً لكنها لا تملك هاتفًا ولا منزلًا ولا أمنًا لتراك؟
هل جربت أن تُكتب قصيدتك الأخيرة على تابوت؟
اليمن لا يريد دموع العالم، بل يريد عقلًا عالميًا يفهم أن العدالة ليست امتيازًا غربيًا، وأن الإنسان إنسان، حتى لو كان يرتدي ثوبًا مرقعًا ويأكل من صحنٍ من تراب.
نحن لا نريد الشفقة، بل نريد أن نتنفس كما يتنفس البشر، أن نحلم كما يحلم الأطفال في النرويج، أن نمشي دون أن نتوقع قناصًا في الزاوية، أن نضحك دون أن نخون دماءنا.
اليمن، يا من صارت صرخته مزمارًا للأنبياء، ويا من صار وجعه دستورًا للفلسفة...
أقسم لو كان أفلاطون يراك، لأعاد رسم جمهوريته على مقاسك.
ولو كان نيتشه يكتب من صعدة، لأعلن موت التاريخ، لا الإله.
ولو كان دوستويفسكي من تعز، لكتب "الإخوة اليمنيون" بدلًا من كارامازوف.
لكننا هنا... نكتب، نُحب، نَحلم، نَبني جُملةً من عظمة، وسط هاوية.
نجمع حروفنا كما يجمع الناس الحطب، لنوقد بها نار الوعي، ونُدفئ هذا العصر البارد.
فاليمن، وإن سقط من على خريطة الحياة، سيبقى منارةً في خريطة المعنى.
وإن جُرّد من البُنى التحتية، سيظل مُحمَّلاً بالبُنى الفوقية للفكر، والكرامة، والتمرد النبيل.
اليمن باقٍ، لأنه ببساطة، ليس بلدًا فقط، بل قصيدة كونية، مكتوبة على هيئة شعب.