اليمن... الأوركسترا العتيقة في قلب الجغرافيا
ليست اليمن مجرد بلد، بل سيمفونية خلّدتها الجغرافيا، وألّفها الإنسان على نوتات الجبال والسهول والبحار. كل تضاريسها آلة موسيقية، وكل زاوية فيها تعزف على وتر مختلف، فتخرج لحناً قديماً يفيض بالشجن، مضمخًا برائحة البنّ، وصوت الأذان، وظلّ السرو، وضوء القناديل في البيوت المعلّقة.
المدرجات الزراعية، تلك السلالم الخضراء التي تتكئ على الجبال، تُشبه آلة الأكورديون، حين تُفتح وتُغلق، تُطلق أنفاس الأرض، وتُصدر أنينًا يشبه همس الفلاحين وهم يزرعون الحلم حبةً حبة.
في كل انثناءة منها صدى لجوعٍ قديم وإرادة لا تشيخ، وكأن الجبال تتنفس من خلالها.
أما السهول الممتدة كبساطٍ ملوّن بألوان الذرة والدُخن، فهي سكسفون الطبيعة، تهمس بنغمة خفيفة حين تعبر الرياح خلالها، وتُرسل نغمة متقطعة حال مرور المساء. فيها الوَقار، وفيها عُذوبة الغفلة، وكأنها تعزف للعابرين لحن الانتظار.
الوِديان، بأعماقها وخرير مياهها، لا يمكن تشبيهها إلا بـ البيانو. كل حجرٍ فيها مفتاح، وكل موجة ماء نغمة، من الدو إلى السي، تنهمر ألحانها تحت المطر، أو تهمس تحت قمرٍ صامت. الوادي في اليمن لا يسير، بل يعزف، وقلوب أهل القرى تحفظ موسيقاه عن ظهر حب.
الجبال؟ الجبال تشيللو ضخم، آلة وترية ثقيلة، تئنّ بصمت، وتنتصب في الأفق كحارس لحن قديم. جبال اليمن لا تغني، بل تهدر بهدوء، وكأنها تحفظ سرّ مملكة سبأ في صدرها. كل قمة هي نغمة مرتفعة، وكل كهف صدى لمقطوعة نُسيت في دهاليز الزمن.
أما البحار التي تلامس أطراف اليمن، فهي القيثارة التي تعزف للغائبين. بحر عدن، وبحر العرب، وزرقة سقطرى، كلها أوتار مفتوحة، تُحدّث عن الأمل المهاجر، وعن السفن التي كانت تعود محمّلة بالبخور والعود والنحاس، ثم غادرت ذات وداع ولم تعد. البحر يعزف، لا يصرخ. يتذكّر ولا يشكو.
الهضاب، الممتدة كتأملٍ صامت، هي الناي. صوتها خافت، يخرج من رحم الريح، وكأنها تحنّ إلى أيامٍ لم تُدوّن. لا تعجّ بالحركة، لكنها تمتلئ بالحكمة. كل تجويف فيها يُشبه بيتًا منسيًا، وكل زقاق لحنًا دافئًا لفجرٍ بلا ضوضاء.
ثم هناك العمران اليمني، ذلك الفن الذي تجاوز الهندسة إلى الشعر. البيوت المعلقة على الصخور، والمُنسوجة من طين وحجر، تبدو كأنها نُوتات مرتفعة على سطرٍ من الجبل.
تُشبه آلة العود، دافئة، خجولة، لكنها حين تُقرَع أبوابها، تُغني. نوافذها ليست زجاجًا فحسب، بل نوافذ على الماضي، على زمنٍ كان الناس فيه يبنون بقلوبهم لا بالخرائط.
في صنعاء القديمة، كل شارع عزف، وكل باب ضربة على طبلٍ صوفيّ. في شبام، كل طابق في ناطحات الطين هو وتر منفرد. في إب، كل شجرة نغمة، وكل شرفة مقطعٌ في سيمفونية المطر. في تعز، كل حيّ مقطوعةٌ على مقام الصبر.
اليمن ليست نشرة أخبار، بل قصيدة موسيقية، ضاعت في ضوضاء السياسة، لكنها ما تزال تعزف، ولو بصمت.