"طيبة أمةٍ أودت بها اليمن نموذج حي"
ليست كل الهزائم تبدأ بالحروب، بعضها يبدأ بفنجان قهوة يُقدَّم لضيف، وبباب يُفتح لوجهٍ باسمٍ يدّعي الصلاح.
في اليمن، كانت الطيبة هي السكين التي ذبحتنا ببطء، والكرم هو المعبر الذي تسلل منه شذّاذ الآفاق، والمروءة هي السُلم الذي صعد عليه الدجالون حتى جلسوا على رقابنا قرونًا.
في عام 280 هجرية، جاء يحيى بن الحسين الرسي من المدينة المنورة إلى صعدة، ومعه أخوه عبد الله، بعدما استُدعيا من قِبل بعض القبائل اليمنية التي كانت تبحث عن رمز ديني في ظل فتن واضطرابات ضربت البلاد، خاصة تلك التي أثارها القرامطة.
ولم يكن يحيى في ذلك الوقت أكثر من رجل يطلب ملجأً في أرضٍ مضطربة، لكنه جاء محمّلًا بعقيدة "الحق الإلهي في الحكم"، ومشروع ولاية السلالة، وكأن الدعوة كانت فخًا نُصبته الطيبة، ووقعت فيه اليمن كلها.
نزل الرسي ضيفًا، فأُكرم. لكن القبائل اليمنية ـ كعادتها ـ لم تضع حدودًا بين الضيافة والسيادة، فبدأ الرجل يؤسس لفكرة أن له حقًّا إلهيًا في الحكم لا لكفاءته، بل لانحداره من نسل فاطمة وعلي. وهكذا، ومن بوابة الطيبة والكرم والمروءة، وُلد الكابوس.
منذ ذلك اليوم، واليمن لا تعرف الاستقرار. لم نعد نُحكم بالعدل ولا بالشورى، بل باسم العِرق والنسب والسلالة. وبدأت حقبة طويلة من التاريخ الأسود، يُحكم فيها اليمن لا بمنجزات الرجال، بل بلون الدم.
ولم يكن الرسي إلا البداية. فقد توالى بعده أئمةٌ جعلوا من الدين غطاءً لسطوتهم، ومن النسب سيفًا للهيمنة.
عبدالله بن حمزة، مثلًا، لم يكتب فقهًا، بل كتب كراهية، وفتاوى تكفّر الناس وتُبيح قتلهم. والهادي وأبناؤه زرعوا ثقافة الطاعة المطلقة للسلالة،
ومن بعدهم جاء من أحرق القرى، وسجن العلماء، وأغلق أبواب المدارس، ومنع اليمنيين من مجرد الحلم بالعلم. الإمام يحيى حميد الدين، آخرهم، جعل اليمن سجنًا كبيرًا مغلقًا على الجهل والخوف، بلدًا يُعاقَب فيه الناس على التفكير.
كل هؤلاء لم يحكمونا إلا باسم النسب. كانت السلطة حكراً على من ادعى الانتساب لآل البيت، أما بقية اليمنيين فمواطنون من الدرجة الثانية، عليهم الطاعة، وعليهم القتال، وعليهم تقديم أولادهم قرابين في سبيل بقاء "السيد".
وهنا، لا بد أن نسأل أنفسنا بصدق: لماذا استمر هذا الخراب كل هذه القرون؟ والإجابة المرة هي: لأننا شعبٌ طيب… حتى الهلاك.
صدّقنا كل من رفع شعار الدين. فتحنا أبوابنا لمن ادعى الورع، ثم تركناه يبني إمبراطوريته على حسابنا.
سكتنا حين زُرعت فينا طبقية بشعة تحت مسمى "الآل" و"السيد" و"القبيلي" و"الخادم"، فاستُعبدنا، لا لأننا ضعفاء، بل لأننا أحسنّا النية في غير أهلها.
العالم تغيّر. شعوبٌ خرجت من حروب مدمرة، ونهضت، وبنت دولًا، وارتقت بالعلم والإنتاج والعمل. كوريا الجنوبية، مثلًا، كانت أفقر من اليمن، واليوم تبني أقمارًا صناعية.
فيتنام خرجت من دمار شامل، وصارت من الدول الصناعية. أما نحن؟ فما زلنا نسأل عن النسب، ونفتخر بلقب، ونُقصي الإنسان لأصله، لا لعقله ولا علمه.
نحن نحمل في داخلنا ميراثًا خبيثًا زُرع يوم دخل يحيى الرسي، وتراكم حتى صار قيدًا على أجيالنا.
وما لم نكسر هذا القيد، فإننا لن ننهض. لا بالتعليم، ولا بالديمقراطية، ولا بالتكنولوجيا… بل سنظل نعيد إنتاج نفس الطغيان، لكن بلباس جديد.
وإن كنا نريد الخلاص، فعلينا أن نبدأ من الجذور. أن نكفّ عن تمجيد السلالة، وأن نفضح كذبة "الحق الإلهي"، وأن نعلّم أبناءنا أن الأرض لمن يبنيها، لا لمن ينتسب إليها. وأن الدين لا يمنح أحدًا تفوقًا بيولوجيًا على الآخرين.
لقد آن أن نعترف بأننا نحن ـ بطبيتنا وسذاجتنا ـ من صنعنا طواغيتنا. نحن من مهدنا الطريق ليحيى الرسي، ولسلالته من بعده. نحن من سمحنا للعمامة أن تصير عرشًا، وللمحراب أن يصير سجناً.
وكل هذا لأننا لم نضع حدًا بين الضيف والدخيل، ولم نفرّق بين التُقى والاستغلال.
لن يتغير اليمن، إلا إذا تغيرنا نحن. لن تعود له عظمته، إلا إذا طردنا من ذاكرتنا تلك الخرافة التي دخلت من الحجاز ، وغرست فينا وهمًا اسمه "آل البيت أحق بالحكم"، فأضعنا الحكم والدين معًا.
فلتكن هذه الصحوة آخر الطيبات القاتلة، ولتكن البداية لعصرٍ جديد، نُكرم فيه أنفسنا بالعقل لا بالخضوع، ونبني فيه وطنًا لا يُحكم باسم الله زورًا، ولا يُستعبد فيه اليمني في أرضه بعد اليوم