تعفن العقول... عندما تحتضر الفكرة
في زمن لم يعد فيه للصمت مكان، وبينما تتسارع الصور والأفكار، يلوح في الأفق مصطلح ثقيل، يحمل في طياته أكثر مما يبدو للوهلة الأولى. إنه "تعفن العقول".
لم يأتِ هذا الوصف من فراغ، بل وُلد من رحم حالة إنسانية جديدة، لم يختبرها من قبلنا أحد.
إنه ليس مرضًا طبيًا، بل هو نتاج تآكل بطيء ومهلك لجوهر الفكرة، وضمورٌ في الوعي الذي كان يومًا ما عميقًا ومتأملًا.
إن العقل، في أسمى صوره، هو مساحة للإبداع والتأمل، حديقة تُزرع فيها الأفكار وتُسقى بالمعرفة.
لكن في هذا العصر، تحولت هذه الحديقة إلى مكب نفايات رقمي، تُرمى فيه الأفكار السريعة والسطحية بلا رقيب.
"تعفن العقول" هو الحالة التي تصبح فيها هذه الأفكار المهملة، والمحتوى العابر، كفيلة بخنق الأفكار الأصيلة.
إنه ليس مجرد نسيان، بل هو فقدان القدرة على تذكر ما هو جوهري، لأنه لم يُتح له الوقت الكافي لينضج في الأصل.
لقد فقدنا قيمة "الصمت"، الذي كان يتيح للفكرة أن تتشكل ببطء.
أصبحنا نخشى الفراغ، فنملأه بضجيج لا ينتهي من التحديثات والإشعارات، وكأننا نهرب من مواجهة أنفسنا.
هذا الهروب المستمر من الفكرة العميقة هو ما يُفضي إلى هذا التعفن.
إنها حالة يصبح فيها الوعي سطحًا عاكسًا لما يلقى عليه، لا عمقًا يتأمل فيه ما يرى.
ولعل أخطر ما في "تعفن العقول" أنه يُقنعنا بأننا نُفكر، بينما نحن في الحقيقة نُستهلك.
نحن نعتقد أننا على دراية بكل شيء، لأننا رأينا كل شيء، لكننا لا ندرك أن هذه الرؤية كانت سريعة وفارغة، لم تُترك لنا مساحة لفهمها أو تحليلها.
إنها دعوة للتوقف، للتأمل، ولإعادة الاعتبار للفكرة الواحدة التي تستحق العناء، قبل أن تبتلعنا دوامة من الفراغ الرقمي.