الفرصة الضائعة!!
منذ زمن بعيد اعتدنا نحن العرب أن نلقي تبعة أزماتنا على الخارج. كلما وقعت كارثة أو اشتعل نزاع انقسمنا إلى فرق وجماعات، ندير نقاشات عقيمة، ونستنزف وقتنا في الملامة والتباكي على مؤامرات الآخرين.
صارت الحجة الجاهزة أن العالم هو من تآمر ونهب وسلب، وكأننا مجرد ضحايا أبرياء لا حول لهم.
نعم، القوى الدولية الكبرى تتحرك في الساحة العالمية ببراغماتية باردة، لكنها لا تعمل بدافع الرحمة أو المبادئ الأخلاقية او سوف يدخلون الجنة، بل وفق منطق واضح وهو المصلحة لهم أولاً وأخيراً.
هذه هي قاعدة السياسة عبر التاريخ، ولا نقاش فيها. لكن السؤال الجوهري الذي نهرب منه دائماً هو، هل يستطيع الخارج أن يستعبد أمة تعرف ما تريد وتمتلك أدوات قوتها؟ الجواب ببساطة يمكن ان نختصره بقولنا "لا".
فالخارج لا يتمكن من اختراق أي بلد إلا حين ينهشه الجهل، وتنهك قواه الصراعات الداخلية، وتُدار شؤونه بعشوائية وارتجال لا برؤية، ويغيب مشروعه الوطني الحقيقي.
في تلك اللحظة يصبح أخطر أعدائنا ليس "الاستعمار الخارجي"، بل الاستحمار الداخلي المتمثل بالنظام الداخلي. هنا جوهر مأزقنا.
فراغ داخلي عميق صنعناه نحن، فراغ في المعرفة والتعليم جعلنا عاجزين عن مواكبة الأمم والمنافسة بابنائنا وبناتنا، ننافس فقط بالشعارات وكثرة الهدرة في المواقع الافتراضية لا بالعلم،
فراغ في الإنتاج جعل أسواقنا مستودعاً لبضائع الآخرين، واقتصادنا ضعيفاً بلا قدرة على الصمود، ارتفاع البطالة وتردي الخدمات، وانتشار الفساد والمحسوبية وغيره.
أضف إلى ذلك فراغ وطننا من القيادة الرشيدة، بعد أن فتحنا الباب لمغامرين يديرون أوطاناً بعقلية القبيلة والقرية والاسرة لا برؤية الدولة، فسلّمنا مفاتيح مصائرنا لجماعات بلا مشروع، بلا جرأة، وبلا وعي وبلا هدف للمجتمع.
فحين تفتقر الشعوب إلى أدوات الاستقلال عن الآخرين وبناء ذاتها، من صناعة واقتصاد ونظام إداري ووعي سياسي جامع،
فمن الطبيعي أن تجد قوى الخارج مكانها في قلب هذا الفراغ. وبدلاً من أن نعترف بمسؤوليتنا عن ذلك، نختر أسهل طريق لتصويف احباطنا عبر تعليق كل مآسينا على "الاستهداف"، على "المؤامرات"، أو على ثورة فبراير.
نتحدث وكأننا ملائكة نزلوا من السماء، وعلى العالم بأسره أن يتكفل بإنقاذنا لأنه "دَين التاريخ".
نتحدث انه لولا فبراير لكان حالنا مثل السويد وسويسرا، هذه عقلية الضحية، عقلية الهزيمة، وليست عقلية النهضة.
فالتاريخ يقدم لنا دروساً صاعقة يجب أن نتعلم منها كانت في المنطقة او بقية العالم. كل هذه الدروس تقول الهزيمة ليست نهاية الطريق.
فألمانيا مثلا بعد الحرب العالمية الثانية خرجت من تحت أنقاض خراب لم يشهد له في الكوكب مثيل.
بلد محتل مقسّم، ملايين القتلى والمشردين وملايين منهم في المعتقلات وخارج وطنهم، عاصمة ممزقة إلى أربع مناطق نفوذ، علماء هُجّروا قسراً، مصانع نُهبت، ثروات سُلبت، نظام سياسي وعسكري انهار، فكر سابق مدمر وفي ثلاثة اشهر اغتصبت 110 الف امرأة وطفلة في برلين وحدها.
لم يكن أمام الألمان شيء سوى إرادة صلبة للبقاء. لكنهم لم ينظروا إلى النتيجة فقط، بل عادوا إلى الأسباب التي اهدرت كرامتهم وبلدهم. لم يقل أحد "أيام هتلر كانت أفضل لأننا كنا نملك كهرباء وماء ورواتب". بل قالوا "نظام هتلر هو الذي ساقنا إلى الكارثة".
قرروا القطيعة مع الماضي. لم يسمحوا لفلول النظام القديم أن يعيدوا تدوير الخراب ولا شخوصه. تخلصوا من عقدة الحنين الى النظام السابق والحشود الفارغة والمريضة، وواجهوا الحقيقة، طريق النجاة يبدأ من التغيير الجذري اي حصل صدمة وبعدها فرمتة وثم برمجة بنظام جديد كما نتحدث.
وهنا بالعقول الجديدة، وبالقبول الصعب لقسوة التحول، انطلقت ألمانيا نحو بناء مختلف، احترام المؤسسات، إعادة الاعتبار للعلم والتعليم، تأسيس اقتصاد إنتاجي، والانفتاح على العالم لا بمنطق التبعية، بل بمنطق الشراكة والفائدة المتبادلة.
وبعد عقود من التعب والصبر، تحولت من أنقاض ممزقة إلى قوة كبرى تحرك أوروبا.
أما نحن فما زلنا نراهن على الوهم ونسوق ادوات الماضي وفينا حنيين للماضي. نتصرف وكأن العالم كله متآمر علينا فقط لأننا ضعفاء. متناسين حقيقة واضحة وهي أن المنطق الرأسمالي لا يعرف المجاملة ولا الأخلاق،
لكنه يمد يده بالقوة للشريك الذي يستحق. أما مع الضعيف، المتردد، الممزق، فالمعادلة واضحة لاجدال يُستغَل، يُستنزف وتُصادر إرادته بلا رحمة ويستعبده ان كان ذلك ضروري.
هذه هي "رأسمالية الكوارث" من يملك أدوات القوة يُحترم ويُفرض، ومن لا يملكها يظل تابعاً مهما صرخ واحتج. ولذلك فالطريق أمامنا ليس مستحيلاً، لكنه يتطلب وعياً ومنهجاً.
قد يصعب أحياناً فهم ما أقول، لكن ما أريده واضح: فبراير لم تكن السبب بل الفرصة الضائعة وكانت الثقب الذي كُسر في الجدار،
وكان الأجدر بنا جعله باباً للأمل نحو الخروج لدولة جديدة لنسير مع ركب التقدم الإنساني، لا أن نبقى أسرى كهف الماضي ونظمه التي فشلت. وهذا هو جوهر الأمر.