اليمن المفرّغ: ذاكرة الحرف والإنسان
في التاريخ لحظاتٌ لا تُقاس بالزمن، بل تُقاس بما تُخلّفه من خواءٍ في الروح. فالأمة ليست مجرد أرض وحدود، بل هي رجالها الذين يحملون المطرقة والإزميل، ويصوغون من العرق بيوتاً وأسواقاً ومدناً.
وإذا غاب هؤلاء، غابت الأمة حتى لو بقيت الجبال على حالها.
إنّ الخراب لا يبدأ حين تهدم الجدران، بل حين تُفرَّغ الحياة من صُنّاعها، حين يصبح التراب بلا يدٍ تعرف سرّه، والبحر بلا قاربٍ يعرف كيف يُروّض موجه.
اليمن، هذه الأرض التي كانت مهد قوافل وأساطير، تُشبه اليوم كتاباً ممزق الصفحات: نقرأ فيه عن السقوف العالية التي بناها الأجداد، وعن الفتوحات التي شارك فيها أبناؤها، وعن أسواقٍ كان يُباع فيها الذهب كما يُباع الخبز،
ثم ننظر إلى الواقع فلا نجد سوى غيابٍ يابس. وكأن الزمن أراد أن يسلب اليمنيين أكثر من أرضهم: سلب منهم أبناءهم، سلب منهم الحرفة التي كانت تضيء حياتهم، وسلب منهم الأمل الذي يُبقيهم متماسكين.
الهجرة لم تكن في اليمن نزوة، بل كانت قدرًا. خرج أبناؤها مع الفتوحات الإسلامية، فكانوا جنوداً وتجاراً وحرفيين ساهموا في بناء مدن بعيدة، وتركوا بصماتهم في بغداد والكوفة ودمشق والقاهرة.
وحين تداعت الإمبراطورية الفارسية، كان للدم اليمني دور في إسقاطها، كما كان لليد اليمنية أثرٌ في إعادة رسم ملامح الحضارة الإسلامية.
لكن ما جرى كان أشبه بمفارقة مأساوية: الوطن الذي أنجب هذه الطاقات ظل ينتظر عودتهم، بينما هم انصهروا في عوالم جديدة، فبقيت البلاد تفتقد إلى شبابها وصنّاعها، كأمٍ تنزف أبناءها في صمت.
ثم جاءت الإمبراطوريات المتعاقبة، لا لتضيف فحسب، بل لتُفرغ أيضاً. لم تكن تدخل أرض اليمن إلا وتترك وراءها فكراً غريباً، أو مذهباً يُفرض، أو نزعة تسعى لتغيير البنية العميقة للمجتمع.
بعض هذه الأفكار تسللت في ثوب الدين، لكنها كانت أداة للسيطرة، تعيد صياغة العقول لا لتمكينها بل لإضعافها. وهكذا تحوّل الفكر إلى سلاحٍ طويل الأمد، يقتل ببطءٍ ويُميت المعنى، فيفرّغ الأرض من قوتها كما يُفرَّغ الكأس من مائها.
ومع مرور القرون، أخذت دوائر الخراب في الاتساع: الهجرة تحوّلت من حركةٍ طبيعية إلى نزيفٍ دائم، والحرف ضاعت مع موت آخر من يعرف أسرارها، والشباب لم يجدوا سوى الغربة أفقاً أو السلاح قدراً.
وحين انفجرت الفوضى الحديثة، وأمسك العنف برقاب الناس، اكتمل المشهد: الورش أُغلقت، المدارس أُهملت، والمواهب خُنقت قبل أن تتنفس. ومن بقي في الداخل عاش في فراغٍ خانق، ومن خرج ظل معلقاً بين أرضٍ تئن وسماءٍ لا تجيب.
لكن اليمن لم يُفرغ لأن الأرض فقيرة، بل لأنه أُريد له أن يكون فقيراً بالإنسان. اليمن أُنهك لأنه كان خزّان طاقات، فاستُنزف، ولأنه كان مركز إشعاع، فحُورب، ولأنه كان قادراً على النهوض، فحاولت القوى أن تُبقيه سجين الماضي.
هنا تتجلى مأساة التاريخ: ليست في الهزيمة نفسها، بل في تفريغ الروح حتى تفقد القدرة على المقاومة.
غير أن السؤال الفلسفي الذي يفرض نفسه: هل يمكن أن تستعيد الأرض أبناءها؟ وهل يمكن أن ينهض وطنٌ بُني على الرحيل؟ الجواب لا يكمن في الحنين ولا في الغضب، بل في الوعي. فالوعي وحده يعيد للأرض معناها،
ويعيد للحرفة مكانتها، ويمنح للشاب سبباً ليبقى ويعمل. ليست الفلسفة هنا ترفاً ذهنياً، بل أداة للبقاء: أن نُحوّل الذاكرة الجريحة إلى خطة، وأن نقرأ التاريخ لا لنلعن الآخرين، بل لنعرف أين أخطأنا وأين يمكن أن نبدأ من جديد.
اليمن لن ينهض بالرثاء ولا بالخطابات الصاخبة، بل بمشروع عقلاني يعيد الإنسان إلى مركز المعادلة. مشروع يعيد الاعتبار للحرفيين والصنّاع والشباب، ويصالح الأرض مع أبنائها، ويجعل الغربة خياراً لا قدراً.
فالأمم لا تُبنى بالشعارات، بل بالأيدي التي تعمل، وبالأرواح التي تعرف أن المستقبل يُزرع كما يُزرع القمح: صبراً، وعرقاً، وإصراراً.
اليمن اليوم ليس بلداً ميتاً، بل بلداً مثقوب القلب، ينتظر أن يُرمم بيديه هو، لا بأيدي الآخرين. والتاريخ لم يغلق صفحته بعد؛ ما زال في الإمكان أن يتحول الفراغ إلى امتلاء، والهجرة إلى عودة، والمأساة إلى بداية جديدة. وهذا هو جوهر الفلسفة:
أن نؤمن بأن ما يسقط يمكن أن ينهض، وما يُفرَّغ يمكن أن يُملأ من جديد، إذا امتلكنا الشجاعة والرؤية.