
إنها وزارة حرب حقّاً
لم تفتعل صحيفة واشنطن بوست سفسطةً عندما ساندت تغيير الرئيس دونالد ترامب مسمّى وزارة الدفاع الأميركية إلى وزارة الحرب، وذهبَت إلى أنه مع صحّة القول إن الدفاع مهمّة "البنتاغون"، فإن هذا الدفاع يعتمد، في حقيقته، على الحرب، ذلك أن "مدى قدرة البنتاغون على الدفاع عن مصالح الولايات المتحدة في العالم مرتبطٌ بتوقّع قدرة البلاد على خوْض الحروب والفوز بها"،
على ما شرحت الصحيفة ما ليس في حاجةٍ إلى شرحٍ طويل، فالذي بادر إليه ترامب ليس أنه أعاد الوزارة إلى اسمِها الأول، عندما أنشأها الرئيس جورج واشنطن في 1789، ثم أُلحِقت بها فروعٌ وإداراتٌ عسكريةٌ، وحافظت على الاسم نفسه حتى 1949، وإنما فعل تسمية الشيء بمُقتضاه، وأعطى الموصوفَ صفته.
لم يكن الرئيسُ في أمره هذا رجلاً معجميّاً، إنما أراد تذكير العالم بأن الولايات المتحدة ليست الدولة التي تُدافع عن نفسها، وإنما التي تُحارب دفاعاً عن نفسها، وبأي كيفيّةٍ وعلى أي وجهةٍ، استباقاً أو تحرّزاً أو استعراض قوّةٍ أو إرسال رسائل إلى من يُقتضى أن تصل إليهم الإشارات الظاهرة أو الخافية، أو لأيّ غرضٍ كان.
أمّا ساحات هذه الحرب فهي العالم كله، لا حدود لها، فقد تُغيرُ قواتٌ أميركيةٌ خاصةٌ على مواقع في اليمن لقتل عناصر من تنظيم القاعدة، على ما فعلت غير مرّة،
وقد تعزّز الولايات المتحدة وجوداً عسكرياً كبيراً لها في البحر الكاريبي، على ما تفعل منذ أسابيع، لاستهداف عصابات مخدّرات، على ما يقول مسؤولون في واشنطن، أو لغزوٍ محتملٍ في فنزويلا، لا يستبعدُه رئيس هذا البلد، مادورو، عندما يذكّر بالسعي الأميركي إيّاه لتغيير النظام في كراكاس بالتهديد العسكري.
ويحدُث أيضاً أن تضرب مقاتلاتٌ أميركيةٌ منشأةً نوويةً في إيران عوْناً لإسرائيل في حرب الـ12 يوماً مطالع الصيف الجاري. ويحدُث أيضاً أن تقتل صواريخُ أميركيةٌ قاسم سليماني ورفيقيْن له في مطار بغداد...
وليس من حيّزٍ أوسع هنا لاستعراض ملاعب الولايات المتحدة التي تُحارب فيها بدواعٍ تصطنعها في أوقاتها.
صحّ ما أذاعَه منتقدون قرار ترامب عن جموحٍ معلنٍ في النزوع العسكري لدى الولايات المتحدة في طوْرها الراهن الذي لا تُراهن فيه على غير القوّة لتعظيم صورتها مُهابَةً في العالم، من دون اكتراثٍ بدورٍ لها في إشاعة السلم الدولي، على ما نسبَت إلى نفسها في أزمنة مضت.
وصحّ أيضاً تحسُّب أوروبا، المعلن وغير المعلن، مما يعدّ، في غير عاصمةٍ فيها، أمراً لا يُستهان به، في هذه "اللغة" الأميركية التي تقدّم العسكرة على كل اعتبار.
والمفارقة أنها لا تقيم وزناً ظاهراً للحسابات الأوروبية، على ما ظهر في تعامل إدارة ترامب بشأن الحرب الروسية في أوكرانيا.
وصحّ أيضاً التحفّظ الذي أبداه عقلاء في الولايات المتحدة نفسها، في الحزب الديمقراطي مثلاً، على صورةٍ لبلدهم في العالم يستدعيها ترامب، تولي المظهر العسكري، الحربي بمعناه الفوقي، الأولوية على أي مظاهر أخرى، فأميركا بلد الصناعات الطبّية والجامعات المرموقة والاختراعات التكنولوجية والكشوفات العلمية، لا ينتقص من قوّتها أن فيها وزارةً للدفاع وليس للحرب، بحسب هؤلاء.
ضُربت سفاراتٌ ومواقع أميركية غير قليلة في العالم، وفي الأرشيف اللبناني أن 241 جندياً أميركياً قضوا في الهجوم الانتحاري بالمتفجّرات على مقرّ لقوات البحرية الأميركية (المارينز) في أكتوبر/ تشرين الأول 1983.
والتفجيران في سفارتي الولايات المتحدة في دار السلام ونيروبي غيرُ منسيين، وليس المقام هنا لتعداد وقائع مثيلة، غير أن المعنى بصدِدها أن اسم وزارةٍ في واشنطن، أحال إلى الحرب أم إلى الدفاع، لا يصنع شيئاً أمام ما تغذّيه السياسات الأميركية من غضبٍ في شعوبٍ غير قليلة في العالم، ما قد يضع مقارّ ومصالح لها في موضع استهدافاتٍ محتملة.
وقد أصاب من قالوا إن للتسمية الجديدة القديمة التي أرادها ترامب للبنتاغون أثراً ثقافياً، ولم يعد موضع جدالٍ أن العُدوانية صارت من أهم صادرات أميركا الثقافية...
وهذا الشذوذ الأميركي السافر في دعم حرب الإبادة الإسرائيلية في غزّة واحدٌ من شواهد بلا عدد على هذه الحقيقة، وهذه "الحربُ" التي تعلنها مسمّىً رسمياً لإحدى واجهاتها يؤكّد المؤكّد ويرسّم المعروف والمعلوم.
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن