
عن "الواقعية المضللة": ما الذي يمنح اليمن فرصة للخلاص؟
حين تدخل الأمم طور التحولات الحاسمة، تصبح السياسة مرآة لما تنتجه من وعي، لا لما تدعيه من شعارات. في تلك اللحظات العصيبة تتكشف حدود المجاملة وتسقط أقنعة التسوية ليظهر الصراع على حقيقته، صراع بين مشروعين لا يمكن التوفيق بينهما.
وفي الحال اليمنية، لم يعد ما يجري مجرد أزمة سياسية قابلة للاحتواء أو المراوغة، بل صراع وجودي بين دولة مدنية تبنى على المواطنة والمساواة، وجماعة ثيوقراطية مسلحة تؤمن بأن الحق الإلهي يعلو على العقد الاجتماعي، وأن الولاء للسلالة يسبق الولاء للوطن.
وعليه، تغدو الخيارات أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، ويصبح الحياد نوعاً من التواطؤ، والحوار مع من لا يؤمن به ضرباً من العبث.
ذلك أن أخطر ما يمكن أن تفعله النخب في هذه اللحظة كما أرى هو الانكفاء إلى "الواقعية المضللة"، التي تزين الرضوخ على أنه تعايش، وتمهد لاستمرار الانهيار باسم الحياد.
وفي اللحظات المفصلية من تاريخ الشعوب، تتجلى الحقائق الكبرى بعيداً من ضجيج الأمنيات وخطابات المجاملة، وتفرض الخيارات بوضوح لا يقبل التردد.
واليمن اليوم، وهو يقف على مشارف تحولات عميقة، لا يملك ترف المناورة أو البحث عن حلول وسط مع مشروع انقلابي ثيوقراطي لا يؤمن بالدولة ولا بالمواطنة.
إن قراءة متأنية لما يحدث تكشف عن أن السقوط الأخلاقي والسياسي للميليشيات الحوثية بات أمراً ظاهراً، وأن رهانها على الاستمرار محكوم بالزوال.
لذلك، يتبدى الحديث من طريق ثالث بين استعادة الدولة والانخراط في مشروع الانقلاب وهماً قاتلاً، لا مكان له في معادلة الصراع الوجودي الراهن.
على أرض الواقع، وفي ظل تدهور مستمر للأوضاع داخل المناطق الخاضعة لسيطرة الجماعة الحوثية، ومع تصاعد الإشارات الدالة على تراجع قبضتها،
ومع استمرار الضربات الجوية التي تتلقاها من طيران العدو الإسرائيلي التي أدت أخيراً إلى سقوط رئيس حكومة الجماعة وعدد من وزرائها قتلى وعدد غير قليل جرحى،
تبرز حالياً مؤشرات لافتة تعكس ما يمكن وصفه بـ"يقين داخلي" لدى أجنحتها القيادية بأن النهاية تقترب، ولو ببطء.
لقد بدأت حركة مريبة تقوم بها عناصر وقيادات تابعة للجماعة، عروض عقارات للبيع بعضها مُصادر بقوة السلاح، تطرح في صنعاء ومناطق أخرى،
وبعض قيادات بدأت فعلاً بالرحيل وإن كانت قليلة العدد وليست من الصف الأول، مما يشي بأن مرحلة القفز من السفينة انطلقت أو على وشك أن تبدأ.
هذا السلوك لا يمكن قراءته خارج سياق التبدلات الجارية على الأرض. فكل المعطيات الراهنة، محلياً وإقليمياً ودولياً، تؤشر إلى أمر جوهري، لم يعد بالإمكان استمرار الوضع كما هو عليه،
كما لم يعد ممكناً، منطقياً أو وطنياً، الحديث من طريق ثالث. إما طريق استعادة الدولة ممن انقلب عليها بقوة السلاح، أو طريق الميليشيات الحوثية ومنظومتها الثيوقراطية السلالية القائمة على ولاية الفقيه.
إن هذا الانقسام الحاد، في تصوري، لم يعد مجرد موقف سياسي، بل هو تعبير وجودي عن شكل الدولة الذي يريده اليمنيون،
إما دولة مدنية حاضنة للجميع بلا تفريق أو تمييز لأي سبب من الأسباب وتؤدي إلى الاستقرار بما يحفظ أمنهم وأمن جيرانهم، وإما كيان سلالي شمولي عقائدي لا يؤمن بالمواطنة ولا بالتعدد.
ولذلك، فإن الحديث عن أية حلول وسط أو إعادة إحياء مسارات تفاوضية لبدء عملية سياسية تقوم على حوار مع من لا يؤمن به، لم يعد سوى عملية تأجيل مكلفة لاستحقاق لا بد منه، ولا مفر.
فالجماعة الحوثية، كما أثبتت الوقائع، وأحداث الأعوام الماضية تشهد وتدين، لا تنتمي إلى الدولة المدنية بمفهومها العام القائم على مؤسسات، ولا تقبل بالآخر المختلف، ولا تسير في أي مسار سياسي تفاوضي إلا بوصفه خدعة موقتة لتثبيت مشروعها.
ولذلك يصبح الرهان على الحوار معها، مجدداً، ضرباً من الوهم السياسي، أو كما أشرت من قبل، هو ضرب من المستحيل، والسكوت على استمرارها، أو السعي لاسترضائها، يعد صورة من صور التواطؤ ضد فكرة الدولة المدنية الوطنية ذاتها.
وإذا كانت إرهاصات التفكك الداخلي لدى الجماعة بدأت تبرز، فإن مسؤولية القوى الوطنية، وعلى رأسها مجلس القيادة الرئاسي، مضاعفة أكثر من أي وقت مضى.
فالفرصة سانحة لإحداث اختراق استراتيجي شريطة توافر قوة واحدة موحدة وإرادة سياسية فاعلة وحازمة تنهي التردد، وتعيد ضبط بوصلة المواجهة الوطنية في اتجاهها الطبيعي، باستعادة الدولة ولا للتكيف مع جماعة منقلبة على الدولة بقوة السلاح بوصفها سلطة أمر واقع.
لقد قلت سابقاً، وأجدد القول اليوم بوضوح تام لا يحتمل اللبس، ليس هناك طريق ثالث. إما أن تكون الدولة ملاذاً آمناً لليمنيين جميعاً، أو يترك المجال لحكم سلالي شمولي قامع يستنسخ تجربة ولاية الفقيه في أكثر صورها قمعاً ومحواً للتنوع.
إن السير في طريق الدولة المدنية الجامعة القائمة على التعايش المشترك المستند إلى التنوع والاختلاف، دولة قانون يسود فيها الحق والحرية والعدل والمساواة، هو وحده ما يمنح اليمن فرصة للخلاص،
ويغلق الباب أمام كارثة مقبلة إن ترك الأمر لجماعة لا تعرف من مفاهيم السياسة إلا التسلط باسم "الحق الإلهي".
إن مشروع الدولة المشار إليها أعلاه ليس مجرد نقيض لمشروع الميليشيات، بل هو نفي جذري لما تنتجه من وعي زائف وسلطة سلالية قمعية قائمة على الخرافة، وهيمنة تقصي الإنسان وتجرف الوطن.
واستعادة الدولة في هذا السياق لا تعني فقط إنهاء الانقلاب، بل تفكيك بنيته المعرفية، وإعادة الاعتبار لفكرة المواطنة بوصفها جوهر العقد الاجتماعي الجديد.
فليس أمام اليمنيين إلا أن يتحركوا بحس تاريخي وطني يليق بحجم التهديد، وإدراك أن كل لحظة تأخير تمنح مشروع الحوثية فرصة أخرى لإعادة إنتاج وهمه القاتل.
وحدها اللحظة التي يتحول فيها الإدراك إلى قرار والموقف إلى استراتيجية، قادرة على إغلاق الدائرة المفتوحة منذ لحظة السقوط الأولى. لا طريق ثالث، ولا حياد في معركة وجود.
فإما أن تنهض الدولة على أنقاض الميليشيات، أو تنهض الميليشيات على أنقاض كل ما تبقى من ملامح الدولة.
وفي قلب هذا التحدي يكمن اليقين. إن الاستسلام خيار لا يجوز والتردد تواطؤ لا يغتفر، أما الفعل فمسؤولية وطنية تتجاوز الحسابات الصغيرة لتكتب ملامح يمن جديد، لا تدار فيه السياسة بوصفها رد فعل، بل باعتبارها مشروعاً وطنياً جامعاً للنجاة.
إن اللحظة التي نعيشها لا تتيح ترف التردد أو متعة التأمل من بعيد، بل تفرض على الجميع، وبقسوة الضرورة التاريخية، أن يحددوا مواقعهم من سؤال المصير.
فالدولة كما أرى ليست مجرد جهاز إداري يُستعاد، بل هي فكرة تتجسد حين تنكسر هيمنة الخرافة ويتراجع الزيف، ويعلو صوت الإنسان على سلالة الوهم.
وعليه يصبح الانحياز إلى الدولة فعلاً أخلاقياً لا مجرد خيار سياسي، ويغدو الحسم مع مشروع الحوثية ضرورة لإنقاذ المعنى قبل إنقاذ المكان.
إن اليمن، في مآلاته الراهنة، لا يواجه جماعة انقلابية وحسب، بل يصطدم بمفهوم مضاد للحياة قوامه التسلط باسم الماوراء، وعماده نفي التنوع وقمع الممكن.
وفي مواجهة كهذه يصبح كل تردد شراكة غير معلنة في الهزيمة، وكل بحث من طريق ثالث بمثابة تواطؤ ناعم مع الانهيار. فما من دولة تنهض على مساومة مع نقيضها، وما من خلاص يبنى على حياد بين النور والظلام.
ولذلك، فإن استعادة الدولة ليست نهاية الحرب فحسب بل هي بداية المعنى، إذ يعاد ترتيب العلاقة بين المواطن والوطن على قاعدة المساواة لا الامتياز، وعلى أساس الحق لا الموروث. وهذا هو جوهر اللحظة، أن نفهم أن الغرق يبدأ حين نكف عن الإيمان بأن النجاة ممكنة.
سامي الكاف
صحافي وكاتب يمني