
الحبل القصير للمفاوضات بين سورية وإسرائيل
ليس بوسع الدولة السورية الحالية أن تلبي مطالب إسرائيل، ولذلك لن يذهب بعيداً مسار المفاوضات الذي بدأ منذ أشهر عدة.
ما تطمح إليه إسرائيل يفوق مقدرة سورية على الوفاء به، فهي كيان هشّ لا يزال في طور التكون عسكرياً وأمنياً واقتصادياً وسياسياً، وما لم تقطع مسافة منظورة على هذا الطريق الشاق،
سيبدو أي اتفاق مع إسرائيل تنازلاً يجر عليها غضباً داخلياً واسعاً، لأن الشارع الذي سكت على التجاوزات الداخلية حتى الآن، من منظور إعطاء الفرصة للإدارة الجديدة، لن يصمت حيال أي اتفاق مختل مع إسرائيل.
الاتفاق المنظور مع إسرائيل أمني، ويجري الحديث عن أن توقيعه سيتم في شهر سبتمبر/أيلول الحالي على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي يحضر أعمالها الرئيس أحمد الشرع، ويلقي أمامها كلمة تقدم التحول السوري الجديد،
وهذا حدث يحصل للمرة الأول منذ عام 1967، منذ كلمة الرئيس الراحل نور الدين الأتاسي، التي تركزت على الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية.
اللقاء الأول لم يبحث في التفاصيل، بل كان هدفه كسر الجليد
بدأت المفاوضات بين سورية وإسرائيل في نقاط حدودية، وجرت بصورة مباشرة، شارك فيها أمنيون، وتركزت الجولة الأولى على جسّ النبض، ولم يخرج الحديث عن العناوين العريضة.
وبحسب مصدر سوري، فإن اللقاء الأول لم يبحث في التفاصيل، بل كان هدفه كسر الجليد، وتحديد مواضيع البحث قبل الانتقال إلى طاولة المفاوضات.
جاء اللقاء بوساطة أميركية، قامت على مبدأ ضرورة بناء مسار، يقوم على وضع اللبنة الأولى في المنطقة الحسّاسة، وهي الحدود، التي عبرتها إسرائيل بمجرد سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي،
ومن ثم وضع لبنات أخرى تدريجياً، تبعاً للتقدم الأفقي والعمودي، وعلى هذا الأساس تمّ قياس مستوى كل خطوة، ومدى التقدم الذي تحققه في المفاوضات.
حضور سورية إلى طاولة المفاوضات
إسرائيل كسبت اللقاء من دون شروط، واعتبرت أن سياسة الضربات والتوغلات العسكرية داخل الأراضي مجدية، وحققت نتائج مهمة، أولها، أنها جاءت بسورية إلى طاولة المفاوضات من دون شروط مسبقة، بما في ذلك الوقف المسبق للاعتداءات.
ويشكل ذلك نقلة نوعية لأن التفاوض خرج عن مظلة الأمم المتحدة، وعلى أساس قراراتها الخاصة بالنزاع.
جاء المفاوض الإسرائيلي، وهو يعمل على استغلال حال الضعف السوري، لتحقيق مكاسب كبيرة مثل ترسيم الحدود، والحصول على إقرار بأن مرتفعات الجولان المحتلة أرض إسرائيلية،
بالإضافة إلى فرض شروط أخرى تتعلق بعدد من قضايا الداخل السوري، وتقييد وجود قوات من الجيش السوري جنوب دمشق، ووعد من الإدارة السورية بالدخول مستقبلاً في "اتفاقات أبراهام" والتطبيع الكامل مع إسرائيل.
الجانب السوري كان يطمح إلى وقف الاعتداءات التي بدأت في 8 ديسمبر، والتوغلات وقضم الأراضي، الذي يتم بصورة منهجية، واستند على إلغاء اتفاقية فصل القوات.
ولم يكن لدى المفاوض السوري مخاوف من أن يتعرض لضغوط إسرائيلية مباشرة، لأنه يعول على الوسيط الأميركي.
وهو يطمح لتحقيق ثلاثة أهداف: وقف القصف الإسرائيلي، العودة إلى اتفاقية فصل القوات عام 1974 والانسحاب من المناطق التي توغلت فيها القوات الاسرائيلي بعد 8 ديسمبر، وتحييد إسرائيل عن التدخل في الشأن الداخلي السوري.
اعتبرت واشنطن أن الجولات التقنية التي انعقدت بين وفود أمنية على الحدود كافية لرفع مستوى المفاوضات، ولذلك خطت نحو تطوير مضمون التفاوض وشكله، ونقلت اللقاءات إلى كل من الإمارات وأذربيجان،
بالتتالي، بحسب التسريبات. وفي المكانين حصل تقدم في بحث نقاط الاتفاق وجرى نقاش مفتوح، استمع فيه كل طرف إلى وجهات نظر الطرف الآخر.
وصمّمت واشنطن الشكل على النحو التالي: إجراءات بناء ثقة، يليها اتفاق أمني مكتوب يقوم على عدم الاعتداء، ومن ثم اتفاق للتفاوض حول تجديد اتفاقية فصل القوات، والمرحلة الأخيرة هي المفاوضات حول اتفاقية سلام،
وفي سياق ذلك يتم فتح ثغرة لانضمام سورية إلى "اتفاقات ابراهام" في حال تحقيق اختراق فعلي.
توقفت حدة الاعتداءات الإسرائيلية خلال المفاوضات، وكانت تحصل بعض العمليات بين حين وآخر، يراد منها توجيه رسائل ضغط على المفاوض السوري، الذي كان يرجع للطرف الأميركي في كل تفصيل بوصف واشنطن هي الوسيط والمسهل، وطموح سورية أن تكون الضامن.
اللافت أن هناك تسريبات كثيرة من وسائل إعلام أميركية وإسرائيلية علّقت آمالاً كبيرة على جولتي أبوظبي وباكو، وجزمت بعضها بحصول لقاء بين الشرع وتساحي هنبغي رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، وهو ما نفته أوساط الإدارة الجديدة.
جاءت أحداث محافظة السويداء جنوب سورية في 13 يوليو/تموز الماضي لتقلب الطاولة، لكنها لم توقف المسار التفاوضي كلياً، وإنما نقلته إلى مستوى آخر، إذ دخل عليه عنصر حضور إسرائيل بقوة في معادلة الجنوب السوري، وباتت لدى تل أبيب حجة رسمية مستندة إلى طلب الشيخ حكمت الهجري.
وفي هذا الوقت بدأت تسريبات تسير في اتجاهين: الأول إقامة ممر انساني إلى السويداء يعبر محافظتي القنيطرة ودرعا، والثاني إقامة شريط عازل يشمل المحافظات الجنوبية السورية الثلاث، القنيطرة، درعا، والسويداء.
مسار تفاوضي جديد في باريس
ونتيجة للتطورات في السويداء، تشكل مسار تفاوضي جديد في باريس بوساطة فرنسية، وعلى هذا الأساس تمّ عقد عدة جلسات في 24 و25 يوليو الماضي،
وواحدة في 21 أغسطس/آب الماضي، بين وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر،
وقد أعلنت وسائل إعلام سورية عن هذه الجولة، وتحدثت وكالة الأنباء السورية "سانا"، عن موضوع اللقاء "لمناقشة عدد من الملفات المرتبطة بتعزيز الاستقرار في المنطقة والجنوب السوري، وخفض التصعيد وعدم التدخل بالشأن السوري الداخلي، والتوصل إلى تفاهمات تدعم الاستقرار في المنطقة، ومراقبة وقف إطلاق النار في محافظة السويداء".
على هامش الجولة، انشغلت وسائل الإعلام بالحديث عن خديعة تعرض لها الجانب السوري من إسرائيل تتعلق بإرسال القوات لاقتحام السويداء، ولم تتضح الصورة فعلياً بين سوء تفسير المفاوض السوري لجولة باكو، التي فُهم منها أن تعهد إسرائيل بعدم التدخل في الشأن السوري يشمل السويداء،
وبين تراجع الجانب الإسرائيلي عن تعهده بعد أن تعرض رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو لضغوط من قيادات درزية في إسرائيل، روحية وعسكرية، ما جعله يتدخل ويقوم بتوجيه ضربات للقوات السورية في محيط المحافظة، وقصف مقر الأركان ووزارة الدفاع بدمشق.
وضع السويداء احتل القسط الأكبر من جولة باريس الأخيرة، التي انتهت إلى عدم اتفاق، وقادت الجانب السوري إلى الأردن وروسيا وتركيا.
وبحضور المبعوث الأميركي لسورية توم برّاك، تمّ في عمّان تشكيل لجنة ثلاثية متابعة خاصة بالسويداء، وفي موسكو طلب الشيباني مساندة روسية للضغط على إسرائيل، وفي أنقرة جرى توقيع اتفاقية عسكرية لتأهيل الجيش السوري وتزويده بأسلحة نوعية.
يشكّل التحرك السوري السريع في الاتجاهات الثلاثة خطوة ذكية تمكنت دمشق بفضلها من رفع نبرة خطابها في اجتماع باريس الأخير، ورفض أي بحث مع إسرائيل بشأن السويداء،
وصار واضحاً أن نبضها صار أقوى في المفاوضات، ولكنها لم تمانع في التعاطي إيجابياً مع الاقتراح الأميركي بتجديد بحث الاتفاقية الأمنية وفق الأسس التي جرى عليها التفاوض قبل أحداث السويداء.
الفروقات كبيرة بخصوص المراد تحقيقه من أهداف في المفاوضات، بين كل من السلطة السورية، وإسرائيل، والولايات المتحدة. إسرائيل ليست في وارد ترك الدولة السورية الجديدة تستقر، وتبني نفسها بعيداً عن هيمنتها،
كما أنها ترى الفرصة سانحة لفرض أمر واقع في منطقة الجنوب، وفي الوقت ذاته بعيدة كل البعد عن البحث بموضوع الجولان وفق التصور السوري، الذي يستند إلى نتائج المفاوضات السورية الإسرائيلية بمؤتمر مدريد.
في المقابل، تطمح الإدارة الجديدة إلى البحث عن صيغة توقف التصعيد الإسرائيلي، لكن ليس بالثمن الذي تطلبه إسرائيل، فهو باهظ جداً بالنسبة لها، ويصعب عليها دفعه،
وهو مُحرِج لها ويضعف سلطتها على الأرض السورية، إضافة لكونه يخرق السيادة.
وبحسب التصريحات التي صدرت عن مسؤولين سوريين، فإن الأولوية بالنسبة لدمشق هي التوصل إلى اتفاق أمني برعاية دولية قابلة على طمأنة إسرائيل، ووضع حد لمخاوفها من الحكم الجديد الذي ينحدر قادته من خلفية جهادية،
ولذلك تريد تجميد النزاع عند هذه النقطة، وعدم الذهاب أبعد من ذلك في هذه الفترة، ولا ترى لنفسها موقعاً في "اتفاقات ابراهام"، التي تعتبر أنها حصلت بين إسرائيل ودول عربية، ليس بينها وبين إسرائيل نزاعات تاريخية وأرض محتلة.
الاستنتاج المنطقي من قراءة المعطيات المتوافرة يوصل إلى أن هناك مبالغة في أخبار الوصول إلى اتفاق، فالمفاوضات لا تزال في بدايتها، والتعقيدات كثيرة، والمواضيع على جدول الأعمال متشابكة، وثمة مسافة شاسعة بين أولويات كل طرف،
وعلى هذا يبدو حبل التفاهم قصيراً، ويحتاج إلى تدخل أميركي من طبيعة خاصة حتى يصمد. وتدرك واشنطن الفروقات الكثيرة بين الطرفين، ولذلك تركز في مرحلة أولى على اتفاق عدم اعتداء ستعمل على تطويره لاحقاً.
بشير البكر
بشير البكر كاتب وشاعر سوري