
إسرائيل لا ترد... لكننا متعايشون
تملأ جماهير الاحتلال الصهيوني الشوارع منذ أكثر من 20 شهراً رفضاً لما تسميه تخاذل حكومتها حيال مسألة الأسرى في غزّة، تقطع الطرق وتتعطّل المرافق وتعطّل الدراسة،
لأنّ هناك، كما تنقل وسائل الإعلام الإسرائيلية، "47 مختطفاً ما زالوا في غزة ولن نتعلم التعايش مع هذا". هكذا يقول طلّاب ومعلّمو المدارس التي أغلقت أبوابها مع بدء العام الدراسي احتجاجاً على استمرار الحرب على غزّة.
ليس هؤلاء، بالطبع، دُعاة سلام، ولا كارهين للحرب على الشعب الفلسطيني، أو اهتزّت ضمائرهم لقتل ما يقترب من 65 ألفاً من الفلسطينيين، كلّ ما في الأمر أنهم يبحثون عمّا يُعيد لهم ما تبقى من ذويهم الأسرى، ثم ليحترق العالم بعدها،
إذ يرفضون فكرة التعايش مع واقعٍ يقول إنّ عشرات من جنودهم أسرى في قبضة المقاومة الفلسطينية لا يزالون.
على الضفة الأخرى، ثمّة مجتمع عربي، شعوباً وأنظمة، متعايش مع فكرة استشهاد 70 إنساناً، على الأقل، يومياً في غزّة، بينهم عشرة على الأقل من منتظري المساعدات، إلى جانب أطفال يموتون جوعاً،
من دون أن تتخطّى ردّات الفعل كم دمعة تحتبس في العيون التي ألفت مشاهد الجثث الممزّقة والوجوه المحروقة والدماء التي تتقاطر من عرباتٍ تنقل جرحى إلى مستشفيات، صارت أهدافاً مثالية للقاتل الصهيوني،
وبعد الدموع، إن سقطت، بعض دعوات على العدو وعلى المتواطئين معه بالصمت والضعف من الحكّام.
الحكومات العربية هي الأخرى مُتعايشة مع فكرة الامتياز والتفوّق في التعاطي مع مأساة غزّة، إذ كلّهم أشقاء أوفياء وداعمون أقوياء، وقد فعلوا كلّ ما عليهم القيام به،
لكن إسرائيل سيئة، وتتعنّت وترفض مطالبات وقف القتال ومناشداته، وتستهين بجهود الوساطة ولا تُقيم لها وزناً، ولا تردّ على ما يقدّمه لها الوسطاء من صفقات ومقترحات تستجيب لرؤيتها وأهدافها وتلبي طلباتها.
يتعايش الرسميون العرب كذلك مع عقيدة أنّ أفضل الجهاد هو الطرق على أبواب المجتمع الدولي، كي يضغط على إسرائيل ويقنع نتنياهو باحترام الوسطاء والنظر فيما يتوصلون إليه من حلول، تضمن له نزع سلاح المقاومة واستعادة أسراه وضمان ألّا يزعجه أحدُ في المستقبل بمفاجآت من نوعية "7 أكتوبر"،
كما يتعايشون مع اللامنطق واللاأخلاق، حين يتصوّرون أنّ بالإمكان أن تشارك الاحتلال تجارياً واقتصادياً، وتطبّع معه سياسياً، وتعتبر نفسك صاحب الموقف الأكثر شرفاً في دعم كفاح الشعب الفلسطيني في الوقت نفسه،
ثم تتهم كلّ من يُطالبك بموقف أكثر شجاعة ورجولة واستجابة لكلّ الاعتبارات القومية والأخلاقية بأنّه من الأعداء، أو على الأقل يخدم الرواية الإسرائيلية والمشروع الصهيوني.
كلهم لم يألوا جهداً، وكلّهم يوصلون الليل بالنهار سعياً إلى إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني في غزّة، منذ 22 شهراً والنتيجة صفر، إذ يمضي المخطّط الصهيوني للإبادة وابتلاع قطاع غزّة بإيقاع يتسارع شهراً بعد شهر.
ورغم ذلك، لا أحد منهم يقرّ بالفشل والعجز والتقصير والخذلان، والاستسلام لمنطق التعايش مع فعل صهيوني يومي، يتطوّر كلّ ساعة، مقابل إغراق المجال العام ببياناتٍ يوميةٍ تشجب وتدين وتندّد،
وتناشد المجتمع الدولي الضغط، يستوي في ذلك النظام العربي، باستثناء اليمن العظيم،
عدا ذلك فالكلّ يواصل إصدار النداءات والبيانات الفصيحة، على نحو بات مثيراً للسخرية، مثل هذا التصريح الأحدث للرئيس التركي "المطلوب من الولايات المتحدة أن تقول لإسرائيل كفى للمجازر والظلم في غزة".
ومثل ذلك التصريح الذي يتردّد دورياً كأنه رسالة هاتفية مسجلة "نرفض تهجير الشعب الفلسطيني من الأرض"،
بينما الواقع اليومي ينطق إنّ الكيان الصهيوني يلتهم هذه الأرض ويحرقها ويضمّها إلى خرائطه، ليس في غزّة فحسب بل وفي الضفة الغربية ايضاً، من دون أن نسمع عن إجراء عملي واحد من أيّ طرف عربي يمكن أن يكون كابحاً لمشروع التهجير.
ينطق الواقع كلّ يوم بأنّ غزّة لا تقاوم ترسانة العدو الهمجي فحسب، بل هي قبل ذلك في مرمى نيران التعايش المُخجل، مع الوهم الذي يجري تكريسُه منذ سنوات بأن لا قِبَلَ لأحد بالدخول في مواجهة مع إسرائيل،
لكنّهم، في الوقت نفسه، لا يكفون عن ادّعاء امتلاك القوّة العسكرية والاقتصادية الجبارة، من دون أن تصدر إشارة واحدة من أشقاء غزّة يمكن أن تزعج الاحتلال أو تدفعه إلى مراجعة حساباته وإعادة التفكير فيما قرّر الذهاب إليه.
وسط هذا الهوان، الذي يبدو أنّه بات خيار العرب الاستراتيجي، تأتي مشاهد أسطول الصمود الإنساني، المُنطلق من برشلونة مارّاً بسواحل إيطاليا مُتجهاً صوب غزّة لكسر الحصار، مئات من السفن الكبيرة والمراكب الصغيرة تحمل آلاف النبلاء من أحرار العالم، من المشهورين والأفراد العاديين، يدركون وحشية الاحتلال وإجراءاته الإجرامية التي تنتظرهم،
ورغم ذلك قرّروا الصمود والتحدّي والإبحار نحو غزّة، بجسارة غابت عن أشقائها، المتعايشين بسعادة ورضا مع عجزهم وبلادتهم.
وائل قنديل
كاتب صحافي مصري