
كيف نجعل الهوية الوطنية قابلة للعيش المشترك؟
في لحظات التشظي المجتمعي، حين تفقد الكلمات معناها، وتختزل الوطنية في مقاييس سطحية لا تصمد أمام سؤال الهوية، تبرز الحاجة إلى إعادة التفكير في المفاهيم المؤسسة لما نسميه "وطناً".
ليس الوطن بما يعلق على الجدران من شعارات، بل بما يتجلى في صمت المهمشين، وفي انتظار المنسيين الذين لا يصرخون، ولا يظهرون في نشرات الأخبار.
الهويات، كما أرى، مثل الأنهار، لا تتكون من مجرى واحد، بل من تفرعات تلتقي لتكون المعنى، وإذا ما حوصرت هذه التفرعات، أو جففت بفعل الاستبعاد، جف معها نبع الانتماء ذاته.
عند هذا الحد، يغدو الوطن في خطر، لا لأن الجغرافيا تتآكل، بل لأن الفكرة التي تؤسسه لم تعد قادرة على احتواء الجميع على قدم المساواة.
في اعتقادي ليس السؤال اليوم كيف نعرف الهوية الوطنية، بل كيف نجعلها قابلة للعيش المشترك، من دون أن تنتج طبقية خفية، ولا تمييزاً بين "مواطن ممتاز" وآخر "عادي"،
كما أشار الكاتب توفيق السيف، الذي نذهب معه في هذه المقالة التحليلية لا بحثاً عن إجابة نظرية، بل لإعادة فتح سؤال الوطن بوصفه مشروعاً إنسانياً لا يستكمل إلا بمواطنيه جميعاً، لا ببعضهم فقط.
في زمن يتآكل فيه المعنى الوطني تحت ضجيج الاستقطاب وتضخم الهويات الفرعية، يطرح توفيق السيف سؤالاً بسيطاً وعميقاً في آن: متى نلتقي جميعاً على أرض واحدة؟
هذه المقالة التحليلية محاولة للتأمل في هذا السؤال، لا من موقع التنظير، بل من موقع الحاجة إلى وطن لا يحتكر أحد تعريفه، ولا يقصى فيه "العاديون" ممن يمنحون أقل مما يستحقون، لأنهم ببساطة لا يصنفون ضمن فئة "الممتازين".
لا تصنع الهويات في الفراغ، ولا تنمو في التوصيفات المجردة. هي، في جوهرها، لحظة وعي جمعي تتبلور حين يتجاوز المجتمع أسئلته الصغيرة لينشغل بسؤال الكل: من نحن معاً؟
ليس على سبيل المجاملة الشعاراتية، بل على نحو يشعر كل فرد، مهما صغر شأنه أو كبر، أن وجوده داخل الوطن ليس موقتاً ولا مشروطاً، بل مكفولاً بصفته شريكاً كاملاً في الانتماء والمصير.
من هنا، تكتسب العبارة التي أطلقها توفيق السيف في مقالته "المواطن 'الممتاز' والمواطن 'العادي'" في إحدى الصحف دلالتها الحاسمة، "حين يكون الإنسان قادراً على التعبير عن نفسه وثقافته ودينه وانتمائه العائلي والقبلي والسياسي في إطار القانون الوطني.
هنا يلتقي الجميع على أرض واحدة، وتمثل الهوية الوطنية دائرة واسعة جامعة، أو مظلة حامية للانتماءات والهويات الأخرى كافة".
ليست هذه مجرد صيغة إنشائية، بل هي في اعتقادي نداء فلسفياً عميقاً لقلب معادلة الانتماء، بما يجعل الوطنية أكبر من التماهي مع خطاب الدولة، وأوسع من الانغلاق في خصوصيات الجماعة.
لقد كتب السيف، وهو القادم من حقل الفقه السياسي والفلسفة الدينية، عن أزمات التعدد والانغلاق والتوجس من الآخر، لا بوصفه طرفاً خصماً، بل بوصفه شاهداً يسعى إلى تجاوز المعطى الثقافي الخام نحو أفق إنساني يتصالح فيه المختلفون من دون أن يفقدوا ذواتهم.
يقول السيف: "أزعم أنه لا يوجد شخص واحد، أحادي الهوية، في العالم كله، بمعنى أن ذهنيته تشكلت في إطار هوية واحدة، أو انتماء واحد فقط. إن شخصاً كهذا ينبغي أن يكون منعزلاً عن العالم كله طوال حياته، وهذا - في ظني - مستحيل بحسب ما نعرف عن عالم اليوم".
من خلال متابعتي بين حين وآخر لما يكتبه السيف، وجدته لا يهادن، لكنه لا يخاصم. يخوض في تعقيدات الهوية والدين والسياسة بمبضع العارف، لا بفأس الغاضب، ويجعل من الرصانة مدخلاً لفهم أعمق لما يتطلبه التعايش في لحظة وطنية مأزومة.
حين يتحدث السيف عن "الهوية الوطنية كمظلة حامية"، فإنه لا يقصد - في تصوري - ذوبان الفوارق، بل ترويضها ضمن عقد اجتماعي يضمن الحق في الاختلاف، ويؤسس لوطن لا يحاصر أفراده في مقاييس "المواطنة الممتازة"
كما يراد لها أحياناً، بل يعترف بأن العاديين، أولئك المنسيين في زوايا المجتمع، هم من يمنح الوطن حقيقته الكبرى.
الفكرة هنا ليست جديدة في المطلق، لكنها تكتسب راهنيتها من ضياع الحدود الفاصلة بين الدولة بوصفها كياناً راعياً، والمجتمع بوصفه كياناً حيوياً.
ما يفتقده كثير من النقاشات اليوم هو هذه الرؤية الهادئة التي لا تخضع للابتزازات الأيديولوجية، ولا تسقط في رومانسية اليوتوبيا.
لهذا، فإن مقاربة السيف، بقدر ما هي تحليل سياسي، فإنها، في العمق، دعوة إلى إعادة تشييد المعنى الوطني، ليس المعنى المصنوع في المختبرات الرسمية، بل ذاك الذي يتشكل من تلاقح القيم، واحترام تعدد منابع الهوية، وانبثاق الوطن كقيمة عليا لا تلغي سواها، بل تحتويها.
هل يؤرخ حريق الكنيسة لانتهاء زمن "عنصري الأمة" وبدء عصر المواطنة في مصر؟
وفي هذا السياق، يكتب السيف في مقالة أخرى بعنوان "لماذا نجح الغربيون وفشلنا؟"،
مؤكداً أن "التعدد الديني والعرقي هو الوضع الطبيعي للحياة في عالم اليوم. ويجب أن نكيف فهمنا للسياسة على نحو يستوعب هذه الحقيقة، كي نتفادى الصراعات الداخلية. القبول المتزايد لهذه الحقيقة دليل على نضج البشرية، واتساع وعيها بحقائق الكون وضروراته".
ليست هذه مجرد ملاحظة عادية أو عابرة، بل في اعتقادي تعبير مكثف عن شرط أساس للتماسك الوطني، في زمن أصبحت فيه الهوية الموحدة عملاً إرادياً، لا تركة وراثية.
يشير السيف إلى أن "التنوع إثراء للوطن، والوطن لكل أهله، مهما اختلفت مصادرهم أو مشاربهم وغاياتهم".
في الواقع تصبح الوطنية - في زمن الاستقطاب - عملاً أخلاقياً شاقاً، لا يكفي فيه الانتماء الجغرافي، ولا تفي فيه حفلات الولاء الموسمية. ما يتطلبه الأمر في اعتقادي، هو شجاعة النظر في المرآة، والتخلي عن وهم الصفاء النقي، والاقتناع بأن كل وطن، ككل إنسان، لا يصبح نفسه إلا حين يعترف بكل أجزائه.
بعبارة أخرى دقيقة وواضحة: في جوهر كل أزمة وطنية يكمن سؤال الهوية، لا بوصفه صراعاً على الأسماء والانتماءات، بل بوصفه اختباراً يومياً لمعنى العيش المشترك.
إن ما يجعل الهوية الوطنية قابلة للحياة ليس قدرتها على محو الفوارق، بل على إدارتها بعدالة تحفظ للناس كرامتهم وحقهم في الاختلاف،
ولذلك فإن التحدي الأكبر ليس في رفع شعارات الوحدة أو الانفصال، أو سن القوانين الناظمة، بل في بناء وعي وطني يرى في التنوع غنى لا تهديداً، وفي الاختلاف فرصة للنضج لا سبباً للفرز والإقصاء.
يمكنني القول على نحو أكثر دقة ووضوحاً: الهويات الجزئية تظل مشروعة ما لم تستعمل سلاحاً ضد فكرة الوطن المشترك، أما حين تصبح الوطنية مجرد رتبة معنوية لا تمنح إلا لـ"الممتازين"،
بحسب مقاييس السلطة أو الجماعة أو التنظيم أو المجلس أو الحزب، فإنها تفقد معناها الأخلاقي، وتتحول إلى أداة تمييز لا إلى رابط جامع.
وعليه، تبدو الحاجة ملحة إلى استعادة الهوية الوطنية من براثن التجزئة، ليس بالعودة لنقاء مفقود، بل بصياغة عقد اجتماعي جديد، يؤسس لمواطنة لا يقصى فيها "العاديون" ويصبحون منسيين، ولا تختزل فيها الدولة في خطابها، بل تجسد في شعور الناس أنهم مرئيون مسموعون، ومشاركون في رسم مصيرهم، لا هامشيون في ظلال امتيازات الآخرين.
سامي الكاف
صحافي وكاتب يمني