مفارقة تختصر مأساة الحكم في العالم العربي
حين تنظر إلى مبنى المستشارية في برلين، لا يبدو المشهد مختلفًا كثيرًا عن أي مؤسسة حكومية أوروبية حديثة؛ مكاتب منظّمة، فرق صغيرة تعمل بصمت، وانضباط واضح في إدارة شؤون الدولة.
غير أنّ المدهش هو ما يكمن في الأرقام: ألمانيا، قاطرة أوروبا وصاحبة أحد أقوى الاقتصادات في العالم، تُدار يوميًا من قبل المستشار الاتحادي، يعاونه فقط ستة مستشارين.
هؤلاء الستة ليسوا مجرّد مساعدين أو موظفين إداريين، بل كلٌّ منهم يمثل عقلًا استراتيجيًا في مجال محدد. فالمستشارة الأولى متخصصة في الاقتصاد والتواصل السياسي، والمستشار الثاني يدير ملف أوروبا بخبرة مالية وإدارية نادرة،
والثالث يحمل دكتوراه في الاقتصاد ويتقن أربع لغات ويضطلع بالملفات الدولية المعقدة.
أما الرابع فهو “العقل البنكي” للمستشارية، قادم من عالم المصارف الدولية، والخامس أستاذ في الاقتصاد الحاسوبي يشرف على صياغة القمم الكبرى مثل G7، والسادسة خريجة كامبريدج ومونستر تمثل جيلًا جديدًا من الكفاءات التحليلية.
كل واحد منهم يدير قسمًا صغيرًا، لكن منظمًا، يشبه خلية نحل في دقته وأسلوب عمله.
القرارات تُناقش على الطاولة، تُوثّق، وتتحوّل إلى بروتوكول تنفيذي يُتابَع خلال ساعات. البساطة هنا ليست نقصًا في القدرات، بل نتيجة إحكام النظام وتوزيع الكفاءة بذكاء.
في المقابل، حين تنظر إلى اليمن، تبدو المفارقة مؤلمة والفرق بيننا وغيرنا ليس عقود وأنما أخاف اقول قرن ونصف.
بلد يملك موارد بشرية وطبيعية ضخمة لكنه غارق في صراعات وتمزق وفوق ذلك تضخم إداري غير مبرّر واثبت فشله مرات عدة.
أكثر من خمسة وعشرين وزيرًا في عدن ومثلهم في صنعاء ، ومئات من الوكلاء والمستشارين والسفراء وكل محافظ معه زمرته كمستشارين ومساعدين،
حتى صارت المناصب أكثر من المشاريع البسيطة والدكاكين، والعناوين والشطحات أكثر من الأفعال والنتيجة فشل يتوسع أكثر.
كيف لبلد يبحث عن منح لإصلاح الكهرباء أو لدعم التعليم او سلات الغذاء، أن يحتمل هذا الكم من “المستشارين” الذين لا يُستشارون إلا في الصمت؟
كيف يمكن لدولة يعيش شعبها أزمة معيشية خانقة أن تُبقي على جيش من المسؤولين لا يضيفون سوى أعباء مالية وإدارية جديدة وفشل؟
الفرق بين برلين وصنعاء وعدن ليس في عدد السكان ولا في الموارد الطبيعية فحسب، بل في فلسفة الإدارة.
فسكان ولاية صغيرة هنا ودون موارد غير الانسان تُدعى ساكسونيا أنهالت، والتي هي أصغر من محافظة أبين، ويبلغ عددهم حوالي مليوني نسمة،
أي أقل من سكان صنعاء أو عدن أو تعز وبفضل عقولهم وتخطيطهم، يساهمون بـ 84 مليار يورو في الناتج القومي الألماني.
هنا نجد ألمانيا اختصرت القيادة في ستة عقول تخطّط وتُنفّذ، بينما اليمن وزّعت نفسها على مئات العناوين التي لا تجد ما تُديره وحتى كل محافظ لديه جيش من المستشارين.
والأدهى أن البعض ما زال يفاخر بلقب “مستشار” وكأنّه إنجاز بحد ذاته، بينما البلاد لم تعد قادرة حتى على دفع رواتب موظفيها الأساسيين.
إنها مفارقة تختصر مأساة الحكم في العالم العربي بشكل عام واليمن بشكل خاص: نُكثر من المقامات ونُهمل العمل، نراكم الألقاب ونفتقد الفعل.
ألمانيا تُدار بالعقل، واليمن تُغرق نفسها في التشريفات.
وبين الستة هناك دولة مترابطة، وبين المئات هناك وطن يتعب من فرط الكلام وكل يوم تقربنا الى الانهيار الشامل لليمن.