
سياسة الخنق التدريجي!
في لحظة تتناسل فيها الأوهام على هيئة مشاريع خلاص، وتُستبدل فيها الدولة بمركز روحي يزعم امتلاك الحقيقة المطلقة، تبرز تجربة الحوثية بوصفها نموذجاً حادّاً لما يمكن تسميته بـ”الثيوقراطية المقنّعة بالسياسة”.
أتصور أن ما نشهده ليس مجرّد سلوك ميليشيوي عادي أو عابر، بل تجسيد حيّ لفكرة تتغذّى على نفي الآخر، وتتوسّل أدوات الدولة لا لبنائها، بل لإعادة تشكيلها وفق منظور عقائدي مغلق لا يرى في التعدد إلا تهديداً، ولا في الشراكة إلا خدعة تكتيكية.
من هذا المنطلق، لا تبدو حملات القمع والاختطاف والهيمنة سوى مراحل متتالية في سياسة خنق بطيئة، لا تُبقي مساحة للسياسة إلا بما يتوافق مع مركزية السلالة ومطلق العصبية.
في كل محطة من مسيرة الحوثية السياسية، يتكشف جوهر الفكرة المؤدلجة التي لا تقبل إلا ذاتها، وترفض التعدد من حيث هو تهديد لبنيتها العقائدية المغلقة.
فحملة الاعتقالات الأخيرة التي طالت قيادات بارزة في المؤتمر الشعبي العام، لم تكن في اعتقادي سوى امتداد طبيعي لعقيدة سياسية ترى في “الآخر” خطراً لا يُحتوى إلا بالإقصاء، لا بالحوار،
وتؤمن بأن الشراكة الوطنية مجرّد تكتيك مرحلي، لا قيمة له خارج حدود السيطرة.
إنّ الميليشيا الحوثية، في هذا السياق، لا تنتمي إلى مفهوم الدولة بمفهومها المدني، بل تسعى لإنتاج نسخة محليّة من الدولة الثيوقراطية التي تحاكي نموذج “ولاية الفقيه”، حيث تكون السلطة امتداداً للإله، ويغدو كل اختلاف معها ضرباً من الكفر السياسي.
لقد مارست الجماعة نهجاً ممنهجاً في تفكيك الحياة الحزبية وتفريغها من محتواها، بدءاً من مصادرة مقرات المؤتمر الشعبي العام، ونهب ممتلكاته وأرصدته، وصولاً إلى تحييد قواعده الجماهيرية ومنعها من أي شكل من أشكال الفعل العام.
بهذا السلوك، لا تُقصي الحوثية خصمها السياسي فحسب، بل تُجهز على فكرة العمل السياسي ذاته، مستبدلة التعددية بمنطق الاصطفاء السلالي، ومفهوماً للجماعة يعلو على الدولة، ويستبدل القانون بالنَّسب، والشرعية بالغلبة.
ولعل حادثة اختطاف ما يزيد عن اثني عشر قيادياً مؤتمرياً في صنعاء، في أغسطس الماضي، تُعدّ تجسيداً مكثفاً لسياسة الخنق التدريجي التي تمارسها الجماعة ضد المؤتمر،
لا بغرض تدميره فحسب، بل لإعادة تشكيله على نحو يخدم بنيتها العقائدية. هي لا تكتفي بالهيمنة، بل تسعى إلى “تدجين”
هذا الكيان السياسي وتفريغه من هويته الوطنية، عبر الإخضاع لا التحاور، والمسخ لا التفاعل، لتحوّل الحزب من كيان وطني مستقل إلى ظلّ خافت في ركابها.
وفي هذا الإطار القمعي، لم يسلم الإعلاميون والصحفيون المحسوبون على المؤتمر من بطش الأذرع الحوثية؛ شأنهم شأن المنتمين إلى الأطراف السياسية الأخرى.
فقد أُغلقت المنصات الإعلامية، واستُنسخت لتصبح بوقاً لسردية الجماعة، بينما غُيبت الأصوات الحرة خلف القضبان.
هذا التضييق على الفضاء الإعلامي ليس مجرد إجراء أمني، بل هو تعبير عن رفض الحوثية لأي رواية لا تنسجم مع منطقها المقدس.
إنها معركة على الوعي قبل أن تكون صراعاً على السلطة، ومع كل صحيفة تُغلق، وكل صوت يُخنق، يتسع الفراغ الذي تُحكم فيه الجماعة قبضتها على المجال العام،
متخذة من القمع وسيلة لتكريس دولة لا تعرف من السياسة إلا طاعة الولي، ومن الوطنية إلا ما يمر عبر بوابة العصبية السلالية.
وهكذا تتكشّف مع كل خطوة قمعية معالم مشروع لا ينتمي إلى الحاضر، بل يُستخرج من تجاويف التاريخ ليُفرض على واقع مغاير بعقلية الغلبة لا الشرعية.
ليست المسألة إذن صراعاً على سلطة وحسب، بل هي في تصوري محاولة لإعادة صياغة المجال العام بأسره وفق منطق لاهوتي يُفرغ السياسة من مضمونها، ويحوّلها إلى طقس من الولاء العصبوي.
وفي ظل هذا الخنق التدريجي، تتقلص إمكانية التعايش، وتضيق فسحة الوطنية، بينما يتم تكييف المؤسسات لتكون أدوات طيّعة في يد سردية واحدة تُحاكم كل اختلاف بوصفه كفراً. إنها نهاية السياسة حين تتحول إلى دين، ونهاية الدولة حين تُختزل في ظلّ الجماعة.
سامي الكاف