
مسؤولية لا غنيمة... نحو إعادة تعريف السلطة في اليمن
أتصور أن استعادة الدولة، في معناها العميق، ليست مجرد لحظة عسكرية تسقط جماعة انقلابية وتعيد سلطة مختطفة، كما أنها ليست بياناً يلقى من علٍ أو خطاباً احتفائياً يُصاغ بموسيقى لغوية موزونة.
إن هذا النوع من المقاربات الذي يحول الفعل السياسي إلى أداء بلاغي لا يصنع دولة ولا يوقف نزفاً، فالدولة لا تستعاد ما لم تفكك بنيتها القديمة أولاً، ويعاد تعريف السلطة نفسها من كونها غنيمة إلى كونها مسؤولية.
في الحال اليمنية، تتخذ هذه المعادلة الصعبة بعداً أكثر تعقيداً، ذلك أن الجمهورية اليمنية ليست مجرد كيان سياسي ظهر صدفة في خرائط ما بعد الحرب الباردة،
بل تسوية تاريخية جمعت كيانين جمهوريين معتمدين لدى هيئة الأمم المتحدة، الشمال (الجمهورية العربية اليمنية 1962 - 1990) والجنوب (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية 1967 - 1990)، أنتجا وحدة اندماجية كانت، خلال لحظتها الأولى، وعداً بدولة مدنية تحتضن الجميع،
إلا أن هذا الوعد انكسر سريعاً حين جرى اختزال الوحدة في بعدها الجغرافي، وأثارت ما أثارته حرب صيف 1994، وتحولت الدولة إلى ميراث خاص يُدار بمنطق الفيء وتحكم بثقافة الإقصاء.
في الواقع كان فعل الاندماج ذاته، الذي أسفر عن ولادة الجمهورية اليمنية خلال الـ22 من مايو (أيار) 1990، غير مبني على دراسات عميقة أو استخلاصات واعية لتجربتي النظامين في كلتا الجمهوريتين.
وكان وضع الجمهورية العربية اليمنية في الشمال صعباً، حيث أخفق النظام السياسي العسكري القبلي الديني في إقامة دولة مؤسسات مدنية مثلما أخفق اقتصادياً، وعليه ديون،
وكان وضع جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في الجنوب أكثر صعوبة، إذ وجد النظام السياسي نفسه وحيداً بعد تفكك المعسكر الاشتراكي الذي يقوده الاتحاد السوفياتي،
فضلاً عمال الصراع الدموي بين الرفاق في الحزب الاشتراكي اليمني، الذي قام على أساس مناطقي عميق، واستنزف قدرات الجميع وطاقاتهم، وجعلهم غير قادرين على تصحيح المسار،
ويعاني اقتصاده ديوناً كنظيره في الشمال، فكان الهرب إلى الوحدة من قبل النظامين، ولمن أيد الوحدة، وكأن ذلك طوق نجاة لهم.
انظروا معي بهدوء، وتأملوا، لقد أصبحت المعضلة الآن تكمن في كيفية استعادة الدولة ممن انقلب عليها بقوة السلاح خلال الـ21 من سبتمبر (أيلول) 2014، وهي معضلة شائكة ومعقدة بات عمرها 11 عاماً، وهذا سيئ بالطبع.
الأسوأ أن لا أحد يعلم على وجه اليقين متى يمكن استعادة هذه الدولة.
في الواقع إن مشروع استعادة الدولة خلال وقتنا الراهن، وفق الوعد المشار إليه أعلاه، يبدأ حيث ينتهي التردد. ذلك أن التردد، في لحظات التحولات الكبرى، ليس حياداً بل هو في اعتقادي انحياز ضمني للفوضى.
لا تبنى الدول بالتمنيات، ولا تُقاد عبر تكرار أخطاء الماضي في أثواب جديدة. إن كل محاولة لاستعادة الدولة عبر الأدوات التي دمرتها في الأصل، هي مجرد إعادة إنتاج لقهر مألوف بلغة مختلفة.
المطلوب إذاً هو قطيعة معرفية وسلوكية مع الإرث الذي جعل من السلطة مكافأة شخصية، ومن الدولة مزرعة يعاد تقسيمها وفق موازين القوة لا وفق شروط التعاقد الاجتماعي.
وهو ما يعني في الجوهر أن لا استعادة حقيقية للدولة من دون مشروع جذري يعيد بناء مفهوم السلطة ذاته، من امتياز إلى تكليف، ومن احتكار إلى شراكة، ومن تسلط إلى خدمة، ومن ظلم وإقصاء إلى عدل وإنصاف.
إن وحدة القرار السياسي والعسكري، لا بوصفها لحظة اندماج قسري، بل كنتاج لوعي جمعي، في حاجة ماسة إلى مركز قرار موحد، قوي وحاسم، يمثل نقطة الانطلاقة الحقيقية نحو تفكيك الفوضى بجميع صورها ومجابهتها،
وهذا يعني - بصريح العبارة يا رئيس وأعضاء مجلس القيادة الرئاسي - المضي قدماً نحو استعادة الدولة ممن انقلب عليها بقوة السلاح. فليس هناك فوضى بلا بنية، وأخطر الفوضى تلك التي تتغذى على ضعف الشرعية بكياناتها المتعارضة الأهداف والتوجهات، وتحول النصوص الدستورية إلى مجرد زينة صورية بلا فاعلية.
لا بد من تفعيل النصوص بإرادة لا ترتجف، لأن الدولة في تصوري لا تتأسس إلا حين تصير القوانين سارية على الجميع، من دون انتقاء أو مواربة.
وضمن هذا السياق، بدا لافتاً حديث رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي في الاجتماع المنعقد بتاريخ الثالث من يونيو (حزيران) 2025 بالعاصمة الموقتة عدن،
على سبيل المثال لا الحصر، حين خاطب الحكومة قائلاً "هذه اللحظة هي لحظة مواجهة صريحة مع النفس، ومع مسؤولياتكم، ومع التطلعات المشروعة لشعبنا الصابر الذي يستحق منكم حكومة فعل، والعمل بروح المسؤولية والعزم والتجرد لمصلحة الوطن والمواطن"،
وهي لهجة تحاول، في الأقل نظرياً، أن تذكر بطبيعة المرحلة بوصفها لحظة اختبار وجودي لا إداري، وتحض على ممارسة السلطة بروح المسؤولية لا كامتياز سلطوي.
ومع تأكيد العليمي أن "أمام الحكومة اليوم مهمة وطنية كبرى تتلخص في عملية البناء المؤسسي والتعافي الاقتصادي والخدمي، واستكمال معركة الخلاص، والاعتماد على النفس على طريق الصمود، والتماسك المستدام"،
تبدو الهوة بين القول والفعل كبيرة بالنسبة إلى أداء غالب أعضاء الحكومة، المحافظين على مناصبهم الوزارية منذ عام 2019 وفق محاصصة أثبتت عدم جدواها،
في ظل تدهور اقتصادي وخدماتي وصحي، وتوقف الرواتب أخيراً لأربعة أشهر متتالية، وازدياد عدد الفقراء على نحو مخيف، وانهيار غير مسبوق في قطاع الكهرباء، ليس داخل عدن وحدها، بل في مجمل مناطق الشرعية.
ولسائل أن يسأل باحثاً عن إجابة، هل حان وقت تشكيل حكومة تكنوقراط من الكفاءات الوطنية المستقلة؟
لماذا هذا الإصرار المريب على المحاصصة؟ (ملاحظة، على رغم التحسن الواضح في سعر صرف العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية والجهود المبذولة من قبل رئيس الحكومة سالم بن بريك، ظل كثير من الأسعار على حاله).
إن الفعل الذي لا يصادق القول لا يصنع دولة. وأي خطاب لا يترجم إلى بنية مؤسساتية فاعلة تلتزم بوعدها للمواطن، ليس سوى قشرة لغوية تستنزف بسرعة.
دولة المستقبل في تصوري لا تقوم على القفز فوق الألم بل على الاعتراف به، ولا تبنى من فوق، بل من قاع المجتمع، من حيث تتشكل الحاجة اليومية للأمن، للخبز، للضوء، وللأمل.
بعبارة أخرى أكثر دقة ووضوحاً، دولة المستقبل ليست تلك التي تعيد إنتاج ماضيها الانقسامي، أو تحاكم تنوعها كما لو أنه عيب وجودي يجب تصحيحه.
بل هي الدولة التي تعترف، ابتداءً، بأن اليمنيين ليسوا نسخة واحدة، وأن اختلافهم ليس عقبة بل إمكاناً. دولة لا تضمن العدل، لا تحقق المساواة، لا تصون التعدد، ولا تحترم الإنسان لكونه إنساناً، ليست سوى نسخة مكررة من القهر الذي تدعي التخلص منه.
قبل أعوام، كتبت أن لا خلاص لليمن إلا متى أدرك الجميع أننا مختلفون. ولعل هذه الخلاصة، في بساطتها الظاهرية وعمقها الواضح، تختزن مشروعاً متكاملاً لدولة مدنية ممكنة،
إذ ما لم نقر بالاختلاف كشرط للعيش المشترك، سيظل كل مشروع سلطة مجرد محاولة لفرض تصور أحادي يختنق فيه الجميع، حتى أولئك الذين يتوهمون الانتصار وصاروا يحتكمون إلى السلاح.
إن الدولة التي نحلم بها ليست يوتوبيا مثالية، بل احتمال واقعي يبدأ من الاعتراف بالحقيقة المرة، أن ما انهار أمامنا لم يكن فقط النظام، بل العقد الاجتماعي ذاته.
وأن الطريق إلى إعادة بناء هذا العقد لا يمر عبر السلاح فحسب، بل عبر وعي جمعي يقر بأن الشراكة لا تُمنح بل تُبنى، وأن الكرامة لا تنتزع من الخصم بل تُصان لكل مواطن.
هكذا فحسب، يمكننا الحديث عن دولة تُستعاد لا بوصفها سلطة جديدة، بل بوصفها فضاءً مشتركاً يؤسس على المعنى النبيل للمواطنة. وما لم نبدأ من هنا، فسنظل نعيد حكاية الانهيار ذاتها، بصيغ جديدة وأسماء مختلفة، لا أكثر.
سامي الكاف
صحافي وكاتب يمني