اليمن ذاكرةٌ لا تموت وصمتٌ يقتل الأوطان
من رحم الوجع يولد الصوت، ومن تراكم الصمت تولد الثورات. هكذا كانت اليمن، وهكذا ستظل…
وطنٌ يُجبرك أن ترفع رأسك ولو أثقلتك القيود.
ليس لأنك تملك رفاهية الغضب، بل لأنك خُلقت على هذه الأرض التي لا تعرف إلا الكبرياء، حتى وهي تئنّ.
تلك الجبال التي حملت أسماء الأجداد، ما زالت تحفظ الذاكرة كما تحفظ الأم ملامح أول أبنائها.
اليمن ليست أرضًا تُروى، بل حكاية تُستعاد في كل جرح، وكل خيبة، وكل انتفاضةٍ مؤجلة.
هنا التاريخ لا يهرم، والذاكرة لا تُصاب بالشيخوخة، بل تعود في كل مرة لتسألنا: إلى متى السكوت؟
منذ فجر الحضارات، كانت اليمن قلب الجزيرة، تُعلّم العالم كيف تُبنى الدول وكيف تُزرع العدالة، ثم جاءتنا العصور تتناوب علينا حتى تاهت البوصلة.
استنزفنا الاستعمار، ثم تمزقنا في نزاعات الداخل، حتى صار بعضنا يرى الوطن غنيمة لا مسؤولية، وصار الولاء للجهة لا للأرض.
وفي غفلةٍ من الوعي، تسلّل مشروع الظلام بخطواتٍ ناعمة، يرفع شعارًا دينيًا ليخفي تحته شهوةَ سلطةٍ لا تعرف لله ولا للوطن حرمة.
كانت البداية همسًا في المساجد، ثم دروسًا في الكهوف، ثم مسيراتٍ وشعاراتٍ تصرخ باسم “الحق الإلهي” لتعيدنا إلى عصور العبودية المقدّسة.
وحين وعى الناس، كان السيف قد سبق الكلمة، وكانت البنادق قد فرضت منطقها على كل بيتٍ وكل قبيلة.
استفاد الحوثي من تغافلنا، من جهلنا، من صمتنا الطويل، من انشغالنا بصراعاتٍ صغيرة وهو يخطّط لحربٍ كبرى.
لم ينتصر لأنه أقوى، بل لأننا كنّا أضعف أمام أنفسنا.
تغافلنا عن خطابه الطائفيّ لأننا ظننّا أنّه لن يتجاوز حدود الكلام،
وتركناه يتمدّد لأننا اعتدنا أن نؤجل المواجهة، حتى صار يؤذن في المساجد بصوتٍ واحدٍ لا يُسمح أن يُخالفه صوت.
نحن الشعب اليمني نملك ذاكرةً قصيرة مؤلمة. نثور، نغضب، نصرخ، ثم ننسى.
ندفن الجريمة في الغبار ونمضي كأن شيئًا لم يكن.
نُصفّق اليوم لمن أسقطنا بالأمس، وننسى مَن خان ومَن قتل ومَن شرّد، كأن الذاكرة ليست درعًا بل عبئًا نريد التخلّص منه.
وفي كل مرةٍ ننسى، نمنحهم عمراً جديداً. في كل مرةٍ نصمت، نمنحهم سلاحاً إضافياً.
في كل مرةٍ نغفر بلا حساب، نوقّع على تكرار المأساة بأيدينا.
قبل أيام فقط، قُتل رجل سبعيني، معلّمٌ لكتاب الله، اسمه الشيخ صالح حنتوس، في محافظة ريمة. قُتل لأنه علّم الناس القرآن، لا السياسة.
لأن فكره النور اصطدم بليلهم الطويل. لم تكن تلك الجريمة الأولى، ولن تكون الأخيرة، لكنها تلخص حكاية وطنٍ يعاقب النور ويكافئ العتمة.
كيف نقبل أن تُزهق روح معلمٍ للقرآن في بلدٍ يقول إنه يدافع عن الدين؟!
كيف نسكت على ذلك ثم نُواصل حياتنا كأن شيئاً لم يحدث؟ إن النسيان هنا جريمة، والصمت خيانة.
يجب أن يُذكَر كل يوم، لا ليُبكى عليه، بل ليُذكّرنا بأن القبح حين لا يُدان يتحوّل إلى قانون.
اليمن اليوم لا تحتاج بياناتٍ ولا لجانًا، بل تحتاج ذاكرةً حاضرة، عقلًا لا ينسى، ولسانًا لا يخاف.
نحتاج أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسبهم، أن نرفض ثقافة “ما عاد ينفع الكلام”، لأن الكلام هو أول المعركة، والكلمة هي الرصاصة الأولى في وجه الباطل.
لن تُشفى اليمن بالصبر وحده، بل بالوعي، بالرفض، بالتذكير الدائم بأن الجريمة لا تموت بالتقادم.
فكل دمٍ سُفك بلا حق، وكل معلمٍ أُسكت صوته، وكل بيتٍ دُمّر ظلمًا، هو دينٌ في أعناقنا.
ليست مشكلتنا أنّ الحوثي قوي، بل أننا نسيناه حين كان ضعيفًا. نسيناه حين حذّر منه العقلاء، وتغافلنا لأننا كنّا نريد السلام بأي ثمن، فدفعنا ثمنًا بلا سلام.
اليمن لا تحتاج أن نبكيها، بل أن نذكّر بها. أن نصرّ على أن نفتح الجرح كل يوم حتى لا يتعفن.
فالوطن الذي ينسى جراحه محكوم بأن ينزف من جديد.
ستعود اليمن حين يستيقظ ضميرها الجمعي، حين يصبح التذكير فرضًا لا مزاجًا، وحين نفهم أن الثورة ليست بندقيةً فحسب، بل ذاكرةٌ ترفض أن تُغسل.
فلا تنسوا، ولا تسكتوا، ولا تسامحوا النسيان.
لأن اليمن تستحق ذاكرةً بحجم وجعها، وصوتًا بحجم تاريخها.