
التوريث بين السياسة والفنّ والأدب
قد ينجح السياسي في أن يلبس الأبناء عباءاته السياسية "الجوخ" في المؤتمرات الحزبية في حياته أو بعد موته، وينجح الأبناء في الاحتفال بتشغيل توربينات السدّ العالي بعد والدهم، وهم بلبس الهندسة الميكانيكية، حتى وإن صارت لهم المليارات في بنوك لندن مع مشاريع البتروكيماويات وعوائد البنوك والبورصات أيضاً.
فمقتفي الأثر قي الصحراء يستطيع أن يتابع بعر النوق والإبل في الصحراء، حتى يصل إلى مكان مونتغمري أو معمّر القذّافي أو علي عبد الله صالح في جبال اليمن...
فالسياسة ما هي إلا مجرّد تدريب على الأطماع في المُلك والتمليك والغزو والقتل، إن لزم الأمر بالسمّ أو العسل.
وأحياناً تكون واجهات الأحزاب مجرّد "بوتيكات" عائلية محجوزة للأحفاد، حتى إن لم تشغلهم في مراهقتهم سوى لعبة البلياردو، إلا أن قدره المحتوم مكتوبٌ على جبينه لحفظ ماء وجه القبيلة أو العائلة أو البيت السياسي الذي دفع الدم لأجيال،
والمحصّلة دائماً تكون: "زيّاً موحّداً وخطاباً موحّداً ممجوجاً وتحية علم ووجبة معتبرة في آخر النهار أو العمر".
الفنّ يظهر فيه عمل الترزية واضحاً، لأنه ينبع من روح الفريق وصاحب الفلوس، أو الفرن، أو مصنع الرخام، أو شواني الحديد الخردة، وقد يصير، في الفنّ ابن صلاح السعدني فنّاناً،
ويوقّع العقود أمام الكاميرات قبل شهر رمضان مع غادة عبد الرازق أمام زرقة مياه شرم الشيخ، أو دهب، أو العاصمة الجديدة، بعد أن يذبح عجلين في "فيسبوك أو "تويتر"،
ولا مانع أيضاً من أن يكون للفنان المرحوم فريد شوقي مولود بالتبنّي، ويعيد إلى الشاشة فيلم "أبو حديد" برؤية معاصرة، ما دام أن هناك ذلك الذي يدفع بعجلة الفنّ والفلوس إلى الأمام،
فكيف مات الممثّل المرحوم سيف الله مختار من دون أن يترك وراء ظهره شركة إنتاج سينمائي مثلاً، فهل نحمد الله أن أمّ كلثوم لم تكن لها ذرّية ترث من بعدها ألماظ حنجرتها، وتفرض ذلك على شركات الإنتاج والكاسيت؟
أمّا حال الأدباء فمحيّر جدّاً، فقد كتبتِ ابنةُ يوسف إدريس مجموعةً قصصيةً، ثمّ سكتتْ من ربع قرن. والأكثر غرابة أن ابن فرانسوا ساغان كتب كتاباً جميلاً عن أمّه، فهل يرجع ذلك إلى فضل المحرّر الأدبي،
رغم أنني كنتُ أصادف فقرات في ثنايا الكتاب لا يستطيع أن يحملها في ذاكرته بهذا الشكل المدهش سوى شخص موهوب لم يكتب أبداً سوى ذلك الكتاب،
واكتفتِ ابنةُ نجيب محفوظ بتعليقات الابنة، بشكل روتيني، يخلو من أيّ هم قرائي أو معرفة بالكتابة، رغم تخرّجهما في الجامعة الأميركية،
ولكن الواضح أن جنون الكتابة الفعلية في مكان آخر عن جينات الدم تماماً، وكذلك التمثيل الحقيقي وليس أعمال النصب الدرامي المُعدّ في الأفران الكهربائية، وإلا لما تاه أولاد مارلون براندو في سكك أخرى وعرة وشائكة ومكلفة.
واضح أن الجينات فيها عثرات ما، وقد تعثّرت ابنة فاتن حمامة بعد أول فيلم لها، واختار ابنها من عمر الشريف مسالك أخرى. حاول ابن أحمد زكي محاولات محدودة، وتعثّر بالموت المبكّر، وتعمل آلة المصنع الدرامي في صنفرة أخشاب ابن عادل إمام بالمنطق نفسه كلّ سنة تقريباً،
ولكن تظلّ تلقائية عادل، التي هي من عند الله وحده وسخاء الطبيعة البشرية، هي الأصل مهما تعدّدت النسخ الكربونية، ومهما بذل أصحاب الإنتاج كل جهودهم، وذلك غير النسخ التي هي من عند الله وكرمه:
كسيف الله مختار، وعبد الغني النجدي، ومحمود شكوكو، وبدرية السيّد "في الغناء"، إلى آخره.
السياسة حائط مائل يستطيع أيُّ فرد أن يتخطّاه بسهولة ما دامت المسائل تتم ليلاً في الحزب، أو في المنادر، أو بأسلاك التليفونات، المهم أن يرث ابن الغني مقعد والده في البرلمان، أو مقعد جده الذي شارك في ثورة 1919 أو مقعد خاله كما أوصته أمه،
والمهم أن يخيط الجلابيب الكشمير نفسها التي كان يختار قماشها الجدّ ويحضر حفل أمّ كلثوم ويشتري الأوتومبيل من إيطاليا، والمهم أن يسهر المقرئ الفلاني في بيته خلال شهر رمضان ويشتري مائة قمع سكر ويركنهم في المندرة مع القهوة والشاي والقرنفل والهيل.
تظلّ الكتابة هي العزيزة جدّاً على الاستنساخ والذكاء الاصطناعي، فهل سنجد يوماً حفيداً للجاحظ في العراق أو لأبي العلاء المعري أو حفيدة لمارغريت دوراس تظهر فجأةً في الهند الصينية من عشيق غامض كان هناك؟
ظلّ جان جينيه وحيداً وفريداً بعذابات وحدته الفريدة، حتى مات بالعرائش ولم يترك ذرية لباريس، وظلّ فرناندو بيسوا وحيداً هناك، وظلّه خلفه وكتبه هي الأخرى يتيمة في الصناديق، حتى فتحت صناديقه بعد عشرات السنين ففاح عطرها على القارات كلّها،
فصار كل الحزانى والمخلصين للكتابة أحفاده في السرّ.
عبد الحكيم حيدر
كاتب وروائي مصري