معطيات داخلية وخارجية تحتاجها اليمن لإنجاح السلام !!
استغرق التمهيد للسلام اليمني، كثيرا من الجهود والرحلات المكوكية، وسيلاً من النقاشات والحوارات، وقليلاً من الخيبات التي رافقت كبرى المناسبات التي كانت قريبة جداً من تحقيقه.
وبعد تسع سنوات من اندلاع الصراع الحرب في اليمن، باتت جميع المؤشرات تقود إلى بوادر حلّ سياسي يلوح في الأفق، خصوصاً بعد المحادثات التي أجريت في العاصمة الرياض بين السعوديين وبين جماعة الحوثيين، والتي استمرت 5 أيام واختتمت الثلاثاء الماضي.
السعوديون وجماعة الحوثيين وصفوا نتائج المفاوضات بالإيجابية، من دون الكشف عن تفاصيل ما تم الاتفاق عليه، ما يعني أن أطراف الصراع في اليمن حسموا أمرهم باتخاذ قرار إيقاف الحرب والشروع في حلّ سياسي يجمع الفرقاء اليمنيين.
لكن النتائج التي أفرزتها الحرب من تشظي البلد إلى حكومتين ومصرفين مركزيين وانقسام الجيش إلى جيوش متعددة، كلّها عوامل تضع العديد من التحديات والمعوقات في طريق الحل السياسي الشامل، والتي سيكون من الصعب تجاوزها في حال لم تقدّم أطراف الصراع التنازلات اللازمة لتجاوز هذه الإشكاليات.
وشهدت الأيام الماضية منقاشات ومداولات حول مرحلة السلام، جرى تدوينها في مسودة يصعب الحكم عليها، كونها لم تصدر بعد، وما زالت قيد الدراسة والنقاشات، وقد تشمل تعديلات عديدة، تتكئ المسودة على أساسين، هما: وقف النار، وبناء الثقة. ورغم أنهما لم يردا بهذه الصيغة، لكن "من دون أي من الأساسين سيتبخر حلم بناء السلام اليمني مجددا", وفق قول سياسي يمني حذر من عودة الضبابية والتشاؤم.
ويتمثل أبرز الإجراءات المبكرة في وقف النار، وصرف الرواتب، وفتح الطرق البرية والبحرية والجوية اليمنية، وتشكيل لجان فنية لدمج البنك المركزي، إلى جانب عملية إصلاح اقتصادية بمساهمة جميع الأطراف، وتعتمد ملامح الحل السياسي في اليمن على معطيات داخلية وخارجية. ويتصدر المعطيات الداخلية تيقن طرفي النزاع من أنه لا حل عسكرياً ممكن للأزمة. بات جسد اللاعبين الأساسيين مثخنا بالضغوط الناجمة عن تكاليف الوعود الباهضة، واتخذت أطراف الصراع خطوة شجاعة باختيار السلام ودعمه، سبقت هذه الخطوة حالة تهدئة إقليمية، ليجد فيها الحل السياسي اليمني فرصة ليتنفس.
ولكي تنطفئ جذوة الصراع اليمني، وينتقل اليمنيون جميعا إلى مستقبل آمن؛ ينبغي أن تبنى دعائم السلام القادم على صيغة الدولة الشاملة والعادلة التي لا تقصي أحداً، لكنها معنية بالدرجة الأولى بحقوق الشعب وموجهة لخدمتهم وليس لخدمة أطراف الصراع، فبذرة كل جولة صراع سابق كانت لأن مشاريع السلام تنظر إلى مستقبل المتصارعين وتجري أدواته على مكاسبهم، لا على مستقبل اليمنيين العامة وحاجاتهم.
كما أن تاريخ اليمن المعاصر يزخر بمراحل حل للصراع كانت تُفضي إلى نقطة البداية، "كما لو أن كل التسويات والاتفاقات لم تكن سوى مجرد محطات تهدئة، لأنها لم تكن مؤطرة بحلول عميقة وشاملة تعالج المسألة من جذورها، وكما لو كانت مجرد فترة تهيئة لصراع جديد...
والآن بعد هذه الحرب الأكثر ضررًا في تاريخ اليمنيين؛ فإنهم يحتاجون إلى سلام شامل وعادل ينقذهم من دوامات الصراع المتتالية، تجفف معه كل بؤر الصراع المتوقعة والخامدة".
أما "جوهرة" المرحلة المستقبلية، فستكون المفاوضات المباشرة، والإجابة على أهم سؤال يتخللها، وهو: "كيف يرى اليمنيون شكل الدولة ومضمونها".
الجانب الاقتصادي في الأزمة اليمنية
ولعل الجانب الاقتصادي يعد من أصعب وأهم الملفات في الأزمة اليمنية، مع انقسام المصرف المركزي اليمني، واختلاف سعر صرف العملة الوطنية بين المناطق التابعة لحكومة الحوثيين في صنعاء، والمناطق التابعة للحكومة الشرعية المعترف بها دولياً في عدن.
أستاذ الاقتصاد في جامعة صنعاء، الدكتور مطهر العباسي، أن "من تداعيات الحرب العبثية في اليمن تشطير الاقتصاد، إذ أصبح لدينا نظامان اقتصاديان مختلفان: نظام في سلطة عدن، ونظام في سلطة صنعاء".
وأشار العباسي، إلى أنه "في سلطة عدن، النظام المالي قائم على تمويل نفقات الحكومة عن طريق طباعة النقود، وفي سلطة صنعاء الحكومة تمول نفقاتها من جبايات الضرائب والجمارك والزكاة أضعافاً مضاعفة". وتابع: "في الجانب النقدي هناك تشطير للمصرف المركزي، فهناك مصرف مركزي في عدن وآخر في صنعاء، وانعكس ذلك أيضاً على قيمة العملة في صنعاء التي تختلف عنها في عدن، كما نتج عنه سعر صرف مختلف بين المدينتين".
واعتبر العباسي أن "من الحكمة أن يكون هناك إجماع بين أطراف الصراع على تحييد الاقتصاد ومؤسساته السيادية والإنتاجية، وما دام الوضع في حالة هدنة، فهذا الأمر يتطلب حواراً جاداً لتوحيد المصرف المركزي أولاً، لأن الحديث عن توحيد العملة لا يمكن أن يتم إلا عبر ذلك".
ولفت أستاذ الاقتصاد إلى أن "توحيد المصرف المركزي ليس صعباً، إذ كل ما في الأمر هو أن يكون هناك توافق على تقاسم المناصب القيادية في المصرف المركزي، وهي المحافظ والنائب ومجلس الإدارة، وبقية الأمور هي أعمال فنية". واعتبر العباسي أنه "إذا توحد المصرف المركزي فمعنى هذا توحيد موارد الدولة، فعوائد صادرات النفط والغاز يجب أن تصب في المصرف المركزي، وكذلك عوائد الضرائب والجمارك والزكاة، وهنا يمكن الحديث عن كيفية تقاسم هذه الموارد السيادية بين السلطتين في صنعاء وعدن".
ولفت العباسي إلى أن المعيار الأساسي هو الرجوع إلى ميزانية 2014، مشيراً إلى أن حوالي 65 – 70 في المائة من الموظفين هم في مناطق صنعاء والبقية في عدن، ولذلك يتطلب الأمر معالجة هذا الموضوع بروية وحكمة، وأيضاً التوافق على آلية لإدارة سعر الصرف بشكل سليم.
وأكد أستاذ الاقتصاد في هذا السياق، أن "توحيد سعر الصرف سيتطلب جهوداً كبيرة، ليس فقط من اليمن، بل أيضاً من الجهات الداعمة وأولها دول التحالف، فلا بد من وجود وديعة كبيرة حتى تدعم القوة الشرائية للريال اليمني، ويمكن وفقاً لآلية السوق أن يتحدد سعر الصرف في منطقة وسط ما بين عدن وصنعاء، ويتم توحيد العملة".
وشرح أن ذلك ضروري "لأن المصرف المركزي سيضطر إلى دفع الرواتب والنفقات التشغيلية وغيرها من مصدر واحد وهي العملة الصادرة من المصرف المركزي في عدن، لأن المصرف المركزي في صنعاء ليست له أي قدرة على طباعة نقود، أو ليست له أي قدرة في إدارة سعر الصرف لأنه ليست لديه أي احتياطيات من الدولار، وهذا الأمر ليس بالمستحيل".
وأشار العباسي إلى أن "هناك تجارب حديثة نجحت، فالنموذج الليبي على سبيل المثال ممكن أن يكون أحد المعالم التي نأخذ منها الدروس المستفادة". وأوضح أنه "في ليبيا، توجد حكومتان، حكومة بنغازي التي تسيطر على آبار النفط، وحكومة طرابلس التي فيها المصرف المركزي ومؤسسات النفط، فاتفق الطرفان على تحييد النفط والمصرف المركزي".
وتابع أن "عوائد صادرات النفط والغاز تصب في المصرف المركزي في طرابلس، الذي يقوم بوضع آلية لتوزيع هذه العوائد بين حكومتي بنغازي وطرابلس، وبهذا الشكل عالجوا القضية الاقتصادية بكل يسر وبساطة، وهم يعملون الآن على الملفات السياسية والعسكرية والأمنية".
وأكد العباسي أن "الأجدر بأطراف الصراع اليمني، إذا كانت لديهم مسؤولية وطنية، أن يضعوا الهمّ الاقتصادي والأجندة الاقتصادية في مقدمة الأولويات في الحوار والنقاش، وأن يخرجوا بحلول سليمة لمعالجة الوضع الاقتصادي"، معتبراً أن ذلك لا يتطلب "إلا إرادة سياسية وفهماً لآليات عمل المؤسسات الاقتصادية أيا كانت المؤسسات السياسية، مثل المصرف المركزي ووزارة المالية، أو المؤسسات الإنتاجية مثل النفط والغاز وغيرها".
تعدد الجيوش والمليشيات
الجانب العسكري والأمني هو الملف الآخر الذي يواجه الكثير من التحديات في طريق معالجته مع انقسام الجيش الوطني عقب أحداث ثورة 11 فبراير/شباط 2011، لتزيد حالة الانقسام عقب انقلاب جماعة الحوثيين في سبتمبر/أيلول 2014.
الحرب التي تشهدها البلاد أسفرت عن وجود تشكيلات عسكرية متعددة، أغلبها غير نظامي، ففي حين يوجد جيش وطني تابع للحكومة الشرعية، هناك مجموعات مسلحة تابعة للحوثيين، وأخرى لـ"المجلس الانتقالي الجنوبي"، وأخرى تابعة لـ"المقاومة الوطنية" التي يقودها عضو مجلس الرئاسة طارق صالح، فيما هناك "ألوية العمالقة" التي يقودها عضو مجلس الرئاسة أبو زرعة المحرمي.
المحلل العسكري العميد جمال الرباصي، أكد ، أن توحيد المجموعات المسلحة مشكلة كبيرة، لافتاً إلى أنه "خلال السنوات الماضية، لم نستطع توحيد القوى في صفّ الشرعية تحت قيادة وزارة الدفاع، فكيف سيكون الحال مع قوات الحوثيين وقوات الشرعية؟".
وتوقع الرباصي أن "تبرز صعوبة كبيرة في عملية توحيد المجموعات المسلحة، ونحن بحاجة إلى أفكار جديدة تخرجنا من هذا الموقف الصعب، مثلاً الاتفاق على بناء القوات المسلحة كقوات للوطن، كحصص لكل محافظة مثلاً، وإنشاء قوات حرس وطني إلى جوارها في كل محافظة لتستوعب المليشيات القائمة، وبنسبة معينة من تعداد السكان".
وأشار الرباصي إلى أن "الحوثي متكئ اليوم في بقائه على مليشياته المسلحة، ولهذا من المستحيل التخلي عنها طوعاً، وكذا الانتقالي وبقية الأطراف، ولهذا أرى أن السلام القائم على المرجعيات الدولية والإقليمية والمحلية مستبعد، وكل ما هو ممكن الوصول إليه هدنة مفتوحة حتى يتغير الموقف الدولي لصالح سلام حقيقي يفرض بالقوة".
ورأى الرباصي أن "الخصم العقائدي للمجتمع اليمني هو الحوثي ومليشياته، ولهذا من الضروري إلحاق هزيمة عسكرية بها وطردها من المحافظات غير الموالية له وحصره، بينما المليشيات الأخرى نفعية وممكن فكفكتها عند تخلي الداعم لصالح مشروع دولة للجميع".
"دولة" الحوثي
التحديات في طريق التسوية المحتملة للأزمة اليمنية لا تنحصر بالملفات الاقتصادية والعسكرية والأمنية، بل تتعدى ذلك إلى الصراع حول مفهوم الدولة وشكلها، في ظل امتلاك الفرقاء السياسيين في اليمن رؤى مختلفة حول شكل الدولة.
الباحثة في مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، ميساء شجاع الدين، اعتبرت، أن أبرز التحديات في طريق التسوية أن "الحوثي شكّل دولة ويريد تطبيق تصوره العقائدي فيها، الذي لا علاقة له بالمواطنة ولا الدستور ولا المفاهيم الحديثة للدولة، وبالتالي هذا لن يخلق قواعد مشتركة بينه وبين القوى السياسية الأخرى، فالحوثي لديه مفهوم عقائدي طائفي وهو أمر لا يستسيغه معظم اليمنيين".
وأضافت شجاع الدين أن "الجنوبيين صارت الآن تطلعاتهم نحو الانفصال والاستقلال، ومن الصعب بعد كل هذا أن يقتنعوا بالعودة إلى صنعاء، خصوصاً في ظل هيمنة عسكرية طائفية لجماعة الحوثيين". وختمت بأن تصورها هو "أن الصراع راهناً ليس مثل السابق على تقاسم السلطة أو تقاسم الثروة، فالصراع هذه المرة هو حول مفهوم وشكل الدولة وهذا أعمق بكثير، ويجعل من وجود أرضية مشتركة أمراً صعباً".
ماذا يحتاج اليمن لإنجاح السلام...
السلام الحقيقي يتمثل في "نزع مسببات الصراع وأدواته، وخلق توازن بين القوى معادلته التنافس على التنمية ومعالجة الواقع، وإعادة القرار للشعب، وتحييد القوة والوظيفة والنفوذ والخطاب، وسرعة معالجة الأولويات الملحة"، وإذا ما هُندس السلام المقبل على هذه الرؤية يمكن أن نضمن استقراراً طويلاً لليمن، ونشهد توجهًا مختلفًا نحو التنمية والإعمار، عندها ستذوب كثير من المشكلات السياسية التي ظهرت الآن، والمشاريع المتعددة التي أنتجها انهيار الدولة بالأساس.
ولكي تنجح العملية السياسية وتنقله من الوضع الحالي لوضع أفضل، يرى مراقبون ومهتمون بالشأن اليمني، أنه من الممكن أن تنجح في اليمن إذا شاركت القوى الوطنية مرحلة الحوار والمفاوضات السياسية بعقول منفتحة تتمركز حول أهمية تغليب مصلحة الإنسان لتحقيق حياة كريمة، ومن المهم أيضا أن لا تصبح المرجعيات شروطا أو قيودا لأهمية إيجاد مساحة للمرونة. أمام التوافقات التي يمكن أن تصل إليها أطراف التفاوض مع أهمية وضع آلية للتشاور الواسع مع المجتمعات المحلية لضمان أن الحلول تعبر على تطلعاتها.
وكل هذه المراحل لن تنجح إذا استمر تجاهل دور الفئات الشبابية والنسوية والمنظمات الحقوقية والمجتمعية الفاعلة في المجتمع .
ولاستدامة السلام الشامل ، فلا بد من نزع أدوات الصراع المادية والمعنوية جميعاً، إذ لا يمكن أن يدوم سلام وهناك سلاح أو قوة مسلحة بيد أي طرف، كما لا تتحول الدولة إلى التنمية والوظيفة العامة أو الثروة مختلة، ويكتنزها طرف دون آخر"، ومن الضروري خروج جميع الأطراف من معادلة القسمة السياسية إلى معادلة الدولة، "أي أن تعود السلطة للشعب، إذ ينبغي لأي تسوية أن تكون مجرد فترة انتقالية تهيئ الأرضية الملائمة للتنافس على خدمة الناس، وخلالها تنزع المكتسبات الذاتية للأطراف التي تصارع بها، حتى إذا ما انتهت الفترة الانتقالية تعود هذه الأطراف إلى الناس دون امتيازات وعوامل قوة ونفوذ، فتطلب منهم أن تعيدهم إلى السطة ببرامج خدمتهم، لا أن تظل الأطراف تحشد الناس لخدمتها هي".
الخلاصة..
تعتقد الأوساط اليمنية، أن السلام بات قريباً من الجميع. حيث أن المعطيات تغيرت، وأن المتحاربين بدأت أهدافهم وأدوارهم تتراجع أكثر تحت وأقع الضغوط الشعبية، وباتت هناك رعاية محلية وإقليمية ودولية لتقاربهم وتوافقاتهم ، كما أن الشعب اليمني بكل فئاته ومكوناته عندما يلمسون مشروعاً واضحاً وقوياً وعادلاً لحضور دولة قوية تُعنى بالناس وحل مشكلاتهم؛ سينخرطون وراء هذا التوجه، وستذوب كل الظواهر التي نشأت بفعل المحاصصة والتقاسم، والخوف على المستقبل والاحتكار والمصير المجهول".
قسم التحرير والمتابعة