
النهب والسطو في السياسة الخارجية الأميركية
تجسّد الاتفاقية الاقتصادية التي وقعتها الولايات المتحدة وأوكرانيا (الأربعاء الماضي)، وتتيح لواشنطن الوصول إلى الموارد الطبيعية الأوكرانية بما فيها المعادن النادرة، مقابل إنشاء صندوق استثماري لإعادة إعمار أوكرانيا المدمّرة بعد ثلاث سنوات من الاجتياح الروسي...
تجسد منطق السطو والنهب الذي يتبنّاه دونالد ترامب في مقاربته للسياسة الخارجية الأميركية. منذ وصوله إلى سدّة الحكم (مطلع العام الجاري)، وهو يتذمّر من تقديم إدارة سلفه جو بايدن أكثر من 300 مليار دولار من المساعدات العسكرية لأوكرانيا، معلناً أنها ديون ينبغي سدادها.
طبعاً، الرقم أقلّ من ذلك بكثير، إذ لا تتجاوز قيمة المساعدات الأميركية المُقرّة لأوكرانيا، منذ فبراير/ شباط 2022 (مع بدء الغزو الروسي) وحتى ديسمبر/ كانون الأول 2024، ما مقداره 182.8 مليار دولار، في حين أن ما صُرف منها يقدّر بـ83.4 مليار دولار فقط.
لكن ترامب لا يتحرّج من الكذب، وهو لا يأبه إن ووجه بالحقائق، بل يزداد إصراراً على كذبه.
على أيّ حال، أُرغمت أوكرانيا على توقيع اتفاق الإذعان من دون أن تحقّق أيّاً من شروطها المتعلّقة بضمانات أمنية أميركية، أو قبول عضويتها في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وانتهى بها الأمر مُشَرَّعَةً للسطو الأميركي على مقدّراتها وسيادتها، رغم أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي كان قد وصف مقترح الاتفاق الأميركي بأنه يعني قبولاً بـ"بيع بلاده".
غير أن زيلينسكي، بعد توبيخه من ترامب ونائبه، جي دي فانس، أمام كاميرات التلفزة في البيت الأبيض (فبراير/ شباط الماضي)، وطرده بعد ذلك، أصبح هو من يتوسّل توقيع اتفاق الإذعان والغرر وبيع أوكرانيا.
بحسب هيئة المسح الجيولوجي الأميركية، تختزن الأراضي الأوكرانية رواسب 22 معدناً من أصل 50 مصنّفةً بالغة الأهمية.
وتشمل هذه معادن أرضية نادرة ومواد أخرى ضرورية لإنتاج الإلكترونيات وتقنيات الطاقة النظيفة وبعض أنظمة الأسلحة.
وتنظر الولايات المتحدة (ودول غربية أخرى) إلى معادن أوكرانيا ذات أهمية استراتيجية كبرى، إذ تهيمن الصين على الإنتاج العالمي من معادن أرضية ومواد نادرة، ومن ثمَّ، تمثل أوكرانيا مصدراً بديلاً لا غنى عنه للانفكاك من هيمنة الصين.
لقد وقعت أوكرانيا ضحية براثن الشره الأميركي، على الرغم من تأكيد وزيرة الاقتصاد الأوكرانية، يوليا سفيريدينكو، التي وقّعت الاتفاق في واشنطن نيابةً عن حكومتها، أن "الملكية والسيطرة الكاملة على جميع الموارد في أراضينا وفي مياهنا الإقليمية ستكون لأوكرانيا".
المثير أن أوكرانيا وقّعت الاتفاقية، ليس في غياب ضمانات أمنية أميركية فقط، بل في ظلّ ضغوط يمارسها ترامب عليها للقبول بالتنازل عن 20% تقريباً من أراضيها لروسيا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم المحتلّة منذ عام 2014، مقابل اتفاق سلام بين الطرفَين.
أبعد من ذلك، إذ لا يبدو ترامب في وارد تعويض أوكرانيا عن خسائرها جرّاء الحرب الروسية عليها من أموال موسكو المجمّدة في الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى.
كما أنه ألمح غير مرّة أنه قد يرفع العقوبات الاقتصادية عن روسيا، والتي كانت فرضتها إدارة بايدن، وربّما توقيع اتفاقات اقتصادية معها.
قد يلقي بعضُهم اللوم على ترامب في السياق الأميركي، غير أن الحقيقة أن إدارة بايدن هي من وسّعت (وعمّقت) الحرب الروسية الأوكرانية، وهي من وقفت في وجه أيّ حلول دبلوماسية لها في سبيل استنزاف روسيا وإنهاكها على حساب أوكرانيا.
كلّ ما فعله ترامب أنه تنكّر لذلك كله. وفي كلّ الأحوال، وبعيداً من هُويَّة سيّد البيت الأبيض، فإن المُبتزّ هي واشنطن، والمُبتزّ كييف.
ليس ما سبق محصوراً في أوكرانيا، فمعارك التعرفات الجمركية، التي أعلنها ترامب على الحلفاء والخصوم على السواء، هي جزء من البلطجة والشره الأميركي.
هذه البلطجة وهذا الشره واحد بغضّ النظر أكانت الإدارة الحاكمة أميركياً جمهورية أم ديمقراطية، وإن اختلفت الوسائل والأدوات والأساليب، بين نهبٍ ناعم هادئ، وآخر طنّان فاضح، كهذا الذي يمارسه ترامب.
الولايات المتحدة هي أكبر مستفيد من قواعد النظام الاقتصادي الدولي القائم منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك هيمنة الدولار على النظام المالي العالمي.
الأمر ذاته ينسحب على محاولات ترامب السطو على كندا، والمكسيك، وجزيرة غرينلاند الدنماركية، وقناة بنما، كلّ ما فعله ترامب أنه أخرج الهيمنة والإلحاق الأميركي لهم ولغيرهم، بما في ذلك أوروبا، إلى العلن.
نحن العرب، أيضاً، لسنا بعيدين من سوريالية المشهد. ليس قطاع غزّة فقط ما يحاول ترامب سرقته وتملّكه ليجعل منه "ريفييرا الشرق الأوسط"، بعد تهجير سكّانه منه إلى مصر والأردن ودول أخرى، بل إن دولاً أخرى لم تسلم منه.
في الأسابيع القليلة القادمة سيزور ترامب المنطقة بدءاً من السعودية، وهو أعلن أن زيارته هذه رُتّبت بعد أن وافقت الرياض على استثمار تريليون دولار في الولايات المتحدة في السنوات الأربع المقبلة.
أيضاً، أعلن ترامب قبل أسابيع قليلة أنه يريد من مصر أن تقبل بالمرور المجّاني للسفن الأميركية، الحربية والتجارية، عبر قناة السويس "إذ لولا الولايات المتحدة لما قامت لها قائمة".
لا يهم كم يعيب الناس على الذئب طبع الغدر فيه، فالغريزة هي الغريزة وهي غير قابلة للتعديل والتغيير. المشكلة هي عندما يقنع الناس أنفسهم أن الذئب يمكن أن يتحوّل حملاً وديعاً ويسلّموا رقابهم له.
أسامة أبو ارشيد
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في واشنطن