
صناعة الخوف
لطالما كان الخوف أداة قوية في ترسانة السيطرة، سلاحًا نفسيًا ماضيًا وحاضرًا، يُستخدم لتشكيل السلوكيات وقمع الإرادات.
إن مفهوم "صناعة الخوف" لا يقتصر على مجرد استغلال المخاوف الطبيعية للبشر، بل يتعداه إلى هندسة دقيقة لبيئات حاضنة للخوف، تُزرع فيها بذور القلق والريبة لتثمر طاعة واستسلامًا.
تتجلى براعة هذه الصناعة بشكل خاص في الأنظمة الاستبدادية، حيث يغدو الخوف حجر الزاوية في بقاء السلطة.
يتفنن الطغاة في نسج شبكات من الرعب تبدأ بتضخيم التهديدات الخارجية أو اختلاق أعداء وهميين، ما يخلق لدى الشعب شعورًا دائمًا بالخطر والحاجة إلى حماية "الزعيم الأوحد".
يتم تغذية هذه المخاوف عبر إعلام مُوجه، يضخ يوميًا جرعات مركزة من الدعاية السوداء والأخبار المُفبركة، ليصبح الخوف جزءًا لا يتجزأ من الوعي الجمعي.
لكن صناعة الخوف لا تقتصر على المستوى السياسي الكلي. إنها تتغلغل في النسيج الاجتماعي الدقيق عبر آليات متعددة.
زرع شبكات التجسس والمخبرين، حتى داخل العائلات، يُفقد الناس القدرة على الثقة ببعضهم البعض.
يتحول المجتمع إلى جزر منعزلة يسودها الشك، ويصبح التعبير عن أي رأي مخالف مغامرة محفوفة بالمخاطر.
هنا، يصبح الصمت قناعًا إجباريًا، والامتثال هو العملة السائدة.
على المستوى الفلسفي، تطرح صناعة الخوف تساؤلات عميقة حول طبيعة السلطة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم.
هل يمكن لسلطة أن تستمد شرعيتها من بث الرعب في نفوس مواطنيها؟
ألا يتنافى هذا مع جوهر العقد الاجتماعي الذي يفترض تبادلًا للحقوق والواجبات بين الطرفين؟
إن صناعة الخوف تقوض حرية الإرادة والاختيار، وتحول المواطنين إلى كائنات مُسيرة بدوافع الخوف لا قناعات العقل.
من الناحية المنطقية، تعتمد هذه الصناعة على مغالطات عديدة. فبدلًا من تقديم حجج عقلانية ومقنعة، تلجأ إلى إثارة المشاعر الغريزية للخوف والقلق.
يتم تضخيم المخاطر المحتملة وتجاهل الحقائق التي تتعارض مع الرواية الرسمية.
هذا النوع من الخطاب العاطفي غالبًا ما يكون أكثر تأثيرًا على الجماهير من الخطاب العقلاني، خاصة في ظل غياب المعلومات الحقيقية وحرية التعبير.
واقعيًا، لقد شهدت العديد من الدول هذا السيناريو المظلم.
حكام استبداديون استغلوا الخوف كأداة مركزية للحفاظ على سلطتهم، تاركين وراءهم مجتمعات مُنهكة نفسيًا وممزقة اجتماعيًا.
إن الآثار طويلة المدى لصناعة الخوف تشمل تراجع الثقة الاجتماعية، وشيوع اللامبالاة السياسية، وتأخر النمو والتطور بسبب غياب الحريات والإبداع.
لكن يبقى السؤال: هل يمكن لهذه الصناعة أن تستمر إلى الأبد؟
التاريخ يشير إلى أن جدران الخوف، مهما بدت سميكة، قابلة للانهيار أمام إرادة الشعوب التي تتوق إلى الحرية والكرامة.
الوعي النقدي، وتداول المعلومات الحرة، والتضامن الاجتماعي، هي الأدوات المضادة التي يمكن أن تفكك هذه المنظومة المعقدة من الرعب.
في الختام، إن صناعة الخوف ليست مجرد تكتيك سياسي عابر، بل هي استراتيجية عميقة الجذور تسعى إلى ترويض الروح الإنسانية وقمع طموحها نحو الحرية والعدالة.
فهم آليات هذه الصناعة هو الخطوة الأولى نحو تفكيكها وبناء مجتمعات تقوم على الثقة والاحترام المتبادل، لا على الخوف والإذعان.
بقلم: أ. عبدالله الشرعبي