الحرب على غزة ومستقبل النظام العربي
قبل انطلاق "طوفان الأقصى"، تصوّر نتنياهو أنّ الكيان الصهيوني أصبح راسخاً إلى الدرجة التي تمكّنه من تحقيق ثلاثة أهداف استراتيجية مترابطة. أوّلها، تصفية القضية الفلسطينية نهائياً ومنع قيام دولة فلسطينية مستقلة. وثانيها، الاندماج التام في المنطقة، عبر تطبيع العلاقة مع الدول العربية والإسلامية التي لم تكن ترتبط معه بعلاقات رسمية حتى ذلك الوقت.
وثالثها، إعادة ترتيب أوضاع المنطقة بطريقة تسمح بقيادتها للدخول في مواجهة إيران، بدعوى أنّ الأخيرة باتت تشكّل مصدر تهديد مشترك، من أجل تدمير برنامجيها النووي والصاروخي، وتفكيك محور المقاومة الذي تقوده، ووقف تمدّد نفوذها في أحشاء المنطقة. ولم تكن تلك مجرّد رؤية نظرية مستوحاة من خيال جامح، وإنما جسّدتها شواهد وتحرّكات عملية على أرض الواقع.
ففي شهر أيلول/سبتمبر من العام الماضي، ألقى نتنياهو خطاباً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان يمسك في يده بخريطة بدا فيها الكيان الصهيوني ممتداً فوق مساحة شاسعة من جغرافية المنطقة، ثم راح يسهب في شرح الإسهامات التي يمكن للعبقرية اليهودية أن تقدّمها لتحقيق استقرار المنطقة ورفاهية شعوبها، إن هي أسلمت قيادها لهذا الكيان!!. أما الولايات المتحدة فكانت في ذلك الوقت منشغلة تماماً بالبحث عن أنسب الطرق لإقناع المملكة العربية السعودية بتطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيوني، وذلك في إطار رؤية كونية أوسع تستهدف محاصرة واحتواء الصين، من خلال الترويج لفكرة إنشاء "ممر هندي" يربط منطقة جنوب شرق آسيا بأوروبا مباشرة، ويمرّ عبر الأراضي السعودية والأردنية وصولاً إلى حيفا!!. غير أن "طوفان الأقصى" الذي انطلق فجأة ومن دون أن يتوقّعه أحد أفسد كل هذه الحسابات وأجبر الجميع على إعادة مراجعتها في ضوء ما يمرّ به العالم من تغييرات جذرية على مختلف الصعد.
ليس هناك من شكّ في أنّ الحرب الإجرامية التي يشنّها الكيان الصهيوني على قطاع غزة منذ ما يقرب من عشرة أشهر ستتوقّف حتماً، إن آجلاً أم عاجلاً، ما لم يقرّر نتنياهو الهروب إلى الأمام، بشنّ حرب واسعة النطاق على حزب الله، وهو أمر غير مرجّح رغم كونه غير مستبعد بالمطلق.
ولأنّ معظم المصادر العسكرية والسياسية والإعلامية في العالم، بما فيها المصادر الصهيونية غير المرتبطة عضوياً ومصلحياً بحكومة نتنياهو الحالية، تكاد تجمع على استحالة نجاح الكيان في تحقيق أي من أهدافه المعلنة من تلك الحرب، فالأرجح أن تظلّ حماس وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة موجودة وفاعلة على الساحة في مرحلة ما بعد التوصّل إلى وقف دائم لإطلاق النار، وكذلك الحال بالنسبة لبقية مكوّنات محور المقاومة في المنطقة.
لذا فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف سيتعامل النظام العربي الرسمي مع مثل هذا الوضع، وهل سيكون بمقدور هذا النظام الإبقاء على القضية الفلسطينية حيّة، وفتح الطريق أمام إقامة دولة فلسطينية مستقلة، أم سيواصل النهج نفسه الذي كان يمارسه قبل انطلاق الطوفان؟
لم يكن البيان الصادر عن الرئاسة الفلسطينية عقب المجزرة المروّعة التي ارتكبها "جيش" الاحتلال الصهيوني في مواصي مدينة خان يونس موفّقاً على الإطلاق. فقد جاء فيه بالنص: "تدين الرئاسة الفلسطينية هذه المذبحة وتحمّل الحكومة الإسرائيلية المسؤولية الكاملة عنها، وكذلك الإدارة الأميركية التي توفّر كلّ أنواع الدعم للاحتلال وجرائمه...
ورغم إدراكنا أن "دولة" الاحتلال لا تحتاج إلى مبرّرات وذرائع لتنفيذ جرائمها بحقّ شعبنا، إلا أنها في الوقت نفسه تستفيد من أيّ ذريعة تجدها لتبرير ما ترتكبه من جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية بحجة أنها تدافع عن نفسها، ما يجعل أيّ جهة تقدّم الذرائع لها شريكاً في تحمّل المسؤولية عما يلحق بشعبنا من مآسٍ ونكبات على يد قوات الاحتلال.
وتعتبر الرئاسة الفلسطينية حركة حماس بتهرّبها من الوحدة الوطنية، وتقديم الذرائع المجانية لـدولة الاحتلال شريكاً في تحمّل المسؤولية القانونية والأخلاقية والسياسية عن استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة بكلّ ما تتسبّب به من معاناة ودمار وقتل لشعبنا. وتدعو الرئاسة حركة حماس إلى تغليب المصالح الوطنية العليا ونزع الذرائع من يد الاحتلال بغية وقف هذه المذبحة المفتوحة بحقّ شعبنا".
ورغم أن سلطة رام الله تدرك جيداً أن الكيان الصهيوني لم يكن يوماً في حاجة إلى ذريعة لممارسة فعل الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، فهي تطالب حماس بالاستسلام وتسليم سلاحها ومقاتليها للمحتل، وهو موقف ينمّ عن مكايدة سياسية من جانب جهة تدّعي أنها تمثّل الشعب الفلسطيني الملتفّ بوضوح حول مشروع المقاومة.
وهذا موقف لا يليق سياسياً أو أخلاقياً، خصوصاً في ظروف كتلك التي يعيشها الشعب الفلسطيني هذه الأيام، وأيضاً في ظل عجز سلطة رام الله عن وقف الاستيطان أو ردع العدوان الإسرائيلي المتواصل على الشعب الفلسطيني طوال عقود مضت.
لا أظن أن موقف النظام الرسمي العربي سيختلف كثيراً عن موقف سلطة رام الله، والتي هي جزء لا يتجزّأ منه في نهاية المطاف. وإذا استمر الحال على هذا المنوال، يخشى أن يتحوّل إلى عبء على الإدارة السياسية لمرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، بالتخفّي وراء سلطة فلسطينية تبدو مستعدة لقبول تنازلات لا مبرّر لها، مقابل وعود فضفاضة لا تسمن ولا تغني من جوع.
وإذا حدث ذلك، لا قدر الله، فسيصبح النظام الرسمي العربي إزاء مشهد مكرّر لما حدث في مرحلة ما بعد توقّف القتال في حرب أكتوبر 73، حين خذلت السياسة السلاح وحوّلت النصر العسكري الذي تحقّق في ميدان القتال إلى هزيمة سياسية جسّدتها "معاهدة سلام" منفردة وغير متكافئة مع مصر، كان من نتائجها المباشرة إطلاق يد الكيان الصهيوني للعبث بمقدّرات شعوب المنطقة والانفراد بكلّ دولة عربية على حدة، إلى أن وصلنا إلى مرحلة الشروع في التصفية الفعلية للقضية الفلسطينية.
ولأنه لن يكون بمقدور حماس أن تشارك مباشرة في إدارة المفاوضات في مرحلة ما بعد تنفيذ صفقة تبادل الأسرى، سواء بالأصالة عن نفسها أو بالنيابة عن كل فصائل المقاومة المسلحة، فضلاً عن استحالة قيام هذه الفصائل بتفويض سلطة رام الله بإدارة هذه المرحلة نيابة عنها، خصوصاً في ظلّ الوضع البائس الذي تعيشه سلطة رام الله حالياً، ينبغي أن يصرّ الجميع منذ الآن على إعادة ترتيب البيت الفلسطيني أولاً، آخذين في الاعتبار جملة من الحقائق التي كشفت أو أسفرت عنها جولة الصراع الحالية مع الكيان الصهيوني، والتي يمكن تلخيص أهمها على النحو الآتي:
الحقيقة الأولى: أن الكيان الصهيوني مني بهزيمة نكراء في هذه الجولة التي ارتكب خلالها أبشع أنواع جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضدّ الإنسانية، ومن ثم ينبغي عليه أن يدفع ثمن ارتكابه لهذه الجرائم، مثلما دفعت ألمانيا من قبل ثمناً للجرائم التي ارتكبها النظام النازي في الحرب العالمية النازية، خصوصاً وأنه يلاحق قضائياً أمام محكمة العدل الدولية، بتهمة ارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني، فضلاً عن أن رئيس وزرائه ووزير دفاعه معرّضون للملاحقة الجنائية أمام محكمة الجنايات الدولية، وذلك بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
الحقيقة الثانية: أنّ الهالة التي كانت تحيط بهذا الكيان سقطت إلى غير رجعة، وعلى الأصعدة كافة. فعلى الصعيد العسكري والأمني سقطت أسطورة "جيشه الذي لا يقهر"، وتبدّدت خرافة أجهزته الأمنية القادرة على الوصول إلى كلّ مكان وفي أي وقت. وعلى الصعيد السياسي تبيّن أن الطبيعة العنصرية للكيان لا تتسق أبداً مع ادعائه القائل بأنه واحة للديمقراطية في صحراء الاستبداد العربي. وعلى الصعيد الأخلاقي تبيّن أن الغاية عنده تبرّر الوسيلة وأن سلوكه الإجرامي مطلق وغير مقيّد بأي كوابح أخلاقية أو قانونية.
الحقيقة الثالثة: أنه كيان غير قادر على حماية نفسه، وأنّ حلفاءه الأميركيين والأوربيين عاجزون عن ردع أيّ من مكوّنات محور المقاومة. فعلى أيّ أساس يمكن للكيان أن يزعم بأنه قادر على حماية الآخرين، وعلى أيّ أساس يمكن لحلفائه الأميركيّين والأوربيين أن يزعموا أنهم وحدهم المؤهّلين للانفراد بقيادة النظام الدولي.
لكلّ ما تقدّم، يبدو لي أنّ حرب الكيان الصهيوني على قطاع غزة، والتي عجز عن حسمها لصالحه، أسهمت بدورها في إلقاء الضوء من جديد على حقيقة مفادها أن النظام الدولي أحادي القطبية في طريقه إلى الانهيار حتماً، إن لم يكن قد انهار بالفعل، وأن نظاماً دولياً متعدّد القطبية في طريقه للتشكّل، وأنّ بوسع "الجنوب العالمي" أن يؤدي دوراً مهماً في التعجيل بانهيار ما تبقّى من النظام العالمي أحادي القطبية والإسراع في بناء نظام عالمي جديد متعدد القطبية وأكثر عدالة في بنيته المؤسسية وقواعده القانونية والأخلاقية.
ولأنّ النظام العربي الرسمي ليس مجرد جزء لا يتجزأ من "الجنوب العالمي" فحسب ولكنه يشكّل ركناً أساسياً فيه، يخيّل لي أنّ أمامه فرصة فريدة للعمل على إعادة إحياء هذا "الجنوب" ولتمكينه من الاضطلاع بالدور التاريخي الذي ينتظره في إقامة النظام العالمي الجديد، شريطة أن يبدأ أولاً بإعادة تنظيم صفوفه المبعثرة وبناء مؤسساته المترهّلة، مسترشداً بالنتائج التي أسفرت عنها هزيمة الكيان الصهيوني في حرب غزة.
حسن نافعة ، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة