تحوُّلات الحرب على ضوء الانــتقال السياسي الأميركي
التصعيد الإضافي الذي بدأت تشهده المعركة، لجهة توسيع العملية البرّية باتجاه «الخطّ الثاني من القرى الحدودية»، ومعاودة استهداف الضاحية الجنوبية بوتيرة أعلى، هو نتاج مجموعة من العوامل المتداخِلة، عسكرياً وسياسياً، مُضافاً إليها تبعات الانتقال السياسي الحاصل حالياً في الولايات المتحدة.
ثمّة، بدايةً، على صعيد المواجهة على الجبهة، فشلٌ إسرائيلي متكرّر في تثبيت أيّ نقطة تمركُز في القرى الأمامية،
بحيث يصبح ممكناً تسويق إنجاز عَمَلاني في مواجهة حزب الله، يسمح للمستوى السياسي، المتمثّل في حكومة الحرب، برفع سقف شروطها لدى حصول أيّ عملية تفاوض على وقف إطلاق النار.
عجز العدوّ عن مقاربة المتغيّر السياسي
هذا قادَ مجلس الحرب في لحظة انتقالية بين قيادتين لوزارة الدفاع، وعلى أعتاب تشكيل الإدارة الأميركية المقبلة، إلى تفعيل مناورة التوسيع، بغرض التغطية على فشل المحاولة الأولى في التقدّم برّاً، بحيث يجري الانتقال إلى خطٍّ جديد من القرى، غير تلك التي أخفَقَت قوّات العدوّ في محاولة احتلالها.
وهذا في الحقيقة ليس تجاوُزاً للخط الأوّل الذي لم يجر احتلاله أو انتزاعُه من المقاومة أصلاً، بقدر ما هو تحريكٌ للعملية العسكرية، إرضاءً للقيادة الجديدة لوزارة الدفاع. فهذه الأخيرة تبدو مع «الوزير الجديد» الآتي من الخارجية والملتصِق بنتنياهو وأجندته لإطالة الحرب، متحمّسةً لتجاوز «إرث» الوزير المُقال يوآف غالانت، الخاصّ بالاكتفاء بالأهداف الموضوعة للحرب من جانب الكابينت.
أي الالتزام بسقف واقعي يمكن تحقيقه في ظلّ موازين القوى الحالية، لجهة تأمين عودة مستوطني الشمال، بدلاً من الذهاب إلى معركة شاملة وغير مضمونة النتائج مع المقاومة.
هكذا، لا يلحَظ التغيير الحاصل في مقاربة وزارة الدفاع الصهيونية، ليس فقط استحالة تحقيق تقدُّم جديد في مواجهة المقاومة على الخطوط الأمامية للجبهة، بعد إعاقة وتكسيح كلّ المحاولات السابقة، بل أيضاً عدم إمكانية تثمير هذه الخُطوة سياسياً، حتى لو تحقَّق لقوّات الاحتلال النزْرُ اليسير من التقدُّم برّاً.
فاللحظة الحالية على مستوى التغطية الأميركيّة للحرب بشكلها الأوسع، لا تتميّز فقط بسيولةٍ عالية، يستحيل معها التعويل على أيّ سقوفٍ جديدة للإبادة، الحاصلة أصلاً، بل كذلك بعدم وضوحٍ كامل، على صعيد ما تريده الإدارة الجديدة، من استمرارِها.
أي بين الرغبة في إنهائها بسرعة بعد أن تكون إسرائيل قد حقّقت معظم أهدافها منها، وهو ما يتعذّر حصوله عملياً بسبب المُعطى الميداني المائِل نسبياً لمصلحة المقاومة، والقدرة على إحداث تعديلات في مجرياتها، بحيث تخدُم أكثر أجندة إدارة ترامب المقبلة التي تدعو منذ الآن إلى مبدأ فرض «السلام عبر القوّة».
الواضح حتى الآن من الإشارات المتناقِضة التي ترسلها شخصيّات إدارة ترامب القادِمة، أنها تريد تحقيق أهداف الحرب من دون أن تكون متورّطة بالضرورة في آلياتها الحالية
جباية ثمن الحرب من دون وسم الإبادة
الواضح حتى الآن من الإشارات المتناقِضة التي ترسلها شخصيّات إدارة ترامب القادِمة، أنها تريد تحقيق أهداف الحرب من دون أن تكون متورّطة بالضرورة في آلياتها الحالية، لجهة النسق الإبادي الذي ساد في حقبة بايدن، والذي حال حتى الآن رغم كلّ جولات وزير خارجيته المكّوكية، دون إنهاء الحرب، أو حتى فرض وقف إطلاق نار جزئي على إسرائيل.
ما يقترحه الجمهوريون مع ترامب، في المقابل، ليس أقلَّ عدوانيّةً، لناحية التطابُق الكامل مع مصالح إسرائيل، مع الذهاب أبعد حتى من الإدارة الحالية، في تغطية أعمال الاستيطان في الضفّة الغربية والقدس، وصولاً إلى القبول بفرض السيادة الكاملة عليهما،
كما يدعو اليمين الصهيوني المتطرّف بقيادة سموتريتش. على أنّ ذلك في «المنهج الجمهوري»، سيكون عبر مسار سياسي أكثَرَ منه عسكري أو إبادي كما هو حاصلٌ الآن،
وبعد أن تكون أهداف الحرب قد تحقَّقت، من دون أن يدفع الجمهوريون أثمانها سياسياً، مثلما حصَلَ مع نظرائهم الديموقراطيين في الانتخابات المنتهية حديثاً.
وحتى هذا الأمر، أي الدفع بمسار سياسي يتمحور حول التطبيع، على ضوء الاستفادة من نتائج الإبادة التي غطّاها الديموقراطيّون، لا يُتوقَّع حصولُه بسهولة أو بسلاسة، نظراً إلى استمرار المقاومة الفلسطينية في جباية ثمن عسكري باهظ من الصهاينة، حتى بعد إتيانهم على قيادتها السياسية، وتدمير القطاع عسكرياً على نحو كامل.
تعثُّر الحلول الاستعمارية الأميركية للمسألة الفلسطينية سيستمرّ بهذا المعنى، ومع الجمهوريين أكثر من الديموقراطيين، لأنّهم قادمون ببرنامج عمل لا يمكن، حتى لدول الإقليم التي جارَتهم في اتفاقات التطبيع السابقة، القبول به من دون الحفاظ على ماء الوجه، بعد كلّ المجازر وأعمال الإبادة التي ارتُكبت في غزّة وحالياً في لبنان.
المحاولة الجمهورية، مع ذلك، ستكون مختلِفة عن نظيرتها الديموقراطية، عبر معاودة تقديم المنافع الاقتصادية من التطبيع، كبديل عن مشروع الحرب الذي فشِلَ الديموقراطيون، ليس فقط في احتوائِه، بل أيضاً في عدم جعله السمة الأبرز لعهدهم، إلى درجة بات يُنظر فيها إلى الإدارة المنتهية الحالية بوصفها الطرف الذي كان يقود الحرب من الخلف ويرعى مشروع الإبادة في غزّة حتى لو ادّعى محاولة إيقافه.
خاتمة
مشكلة إسرائيل الحالية، والتي تظهَر أكثر مع حكومة نتنياهو، كونها تعبيراً عن انسداد الأفق السياسي أمام الدور الوظيفي التقليدي للصهيونية، أنها تخوض حرباً بالوكالة عن الجناح المغادِر من الإمبريالية الأميركية، والذي باتت فُرَصُه، حتى لإيقاف الإبادة، شبه منعدِمة.
وهذا يعني أنها ستكون مضطرّة مع قرب انتهاء النسق الإبادي من الحرب الذي نال تغطيةً كاملة من الديموقراطيين، إلى تعديل استراتيجيتها السياسية والعسكرية، بحيث تصبِح ملائمة للجناح الإمبريالي الأميركي الآخر، الذي يقوده الجمهوريون مع ترامب، والذي، بخلاف نظيرِه الديموقراطي، لا يعتبر الحرب مدخلاً إلى استعادة الهيمنة الأميركية على مقدّرات العالم.
عدم إدراك حكومة الحرب، على ما يبدو، لهذا الفارق بين المنهجين، حتى لو أظهَرت تقاطُعاً أكبر مع إدارة ترامب كونها يمينية متطرّفة مثلها، سيضعها أمام مأزق، ليس فقط الخروج من الحرب بشكل يتناسب مع الأجندة الجمهورية، بل أيضاً، وهذا أصعَب بكثير، الظهور بمظهر مفارِق لمسارها كما عرفناه من خلال الإبادة.
أي كمن خاضها بأثَر رجعي، تحقيقاً لشعار «السلام عبر القوّة»، الذي تتمحور حوله فلسفة إدارة ترامب القادمة، حيث الحروب التي نشأت بموجبها إسرائيل، والتي تمثّل الحرب الحالية امتداداً متقدِّماً لها، ليست حاجة بعد الآن للإمبرياليّة الأميركية.
انتفاء الحاجة إلى الحرب في التوسّع الإمبريالي، كما تُظهِره الأدبيات الجمهورية الجديدة، لا يعبّر فقط عن ميل انعزالي وانكفائي في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بل يُعدّ أيضاً بمنزلة استغناء تدريجي وطويل الأمَد عن الأدوار التاريخية لوكلاء الإمبرياليّة وامتداداتها العضويّة في الإقليم.
وكون الدولة الصهيونية هي الأبرز والأكثر استماتةً في أداء وظيفتها، من بين الامتدادات الأخرى، فهذا يجعلها، بدوره، المرشح الأوّل لدفع ثمن السياسات الانكفائية لإدارة ترامب، إلى جانب أوكرانيا، سواء حصَلَ ذلك في ظلّ حكومة الحرب الحاليّة أو في ظلّ أي حكومة أخرى.
كلّ ذلك يضع التحالف الناشئ حالياً بين الحكومتين في إسرائيل والولايات المتحدة (الإدارة المقبلة) موضع تساؤُل، كونه لا يقوم على عوامل ومحدّدات تضمن استمراره على المدى البعيد.
أي بعد انتهاء الحرب، وحصول إدارة ترامب المقبلة على مبتغاها منها، لجهة قطف «السلام» من دون ثمن سياسي كبير، وبطريقة تقود مع الانسحاب تدريجياً من الإقليم، إلى تعريض الأمن الاستراتيجي لوكيلها العضويّ للخطر، حتى مع التغطية الكاملة التي ستحصل لأعمال الاستيطان في الضفّة والقدس وصولاً إلى غزّة نفسِها.
* ورد كاسوحة، كاتب سوري