بايدن في أفريقيا... استدراك الوقت الضائع؟
يقول المثل الإنكليزي "أن تأتي متأخّراً خيراً من أن لا تأتي أبداً"، يصف هذا المثل حال التعاطي الأميركي مع القارة الأفريقية؛ ممثّلاً في الرئيس جو بايدن، الذي قرّر في الوقت الضائع؛ كانون الأول/ديسمبر الجاري، وفي الـ 50 يوماً المتبقّية من ولايته أن يزور القارة الأفريقية ممثّلة في دولة أنغولا.
جاء بيان البيت الأبيض في توصيفه وتعليقه على الزيارة بأن "هذه رحلة تاريخية، وتعدّ أول زيارة لرئيس أميركي إلى أفريقيا منذ ما يقرب من عقد من الزمان، منذ عام 2015"، لافتاً إلى أن "هذه هي أول زيارة على الإطلاق لرئيس أميركي حالي إلى أنغولا".
وذكر البيان أن بايدن سيلتقي بنظيره جواو لورينسو في لواندا، ضمن جهود الولايات المتحدة وأنغولا لتوسيع الفرص الاقتصادية ذات التأثير، وتعزيز السلام والأمن الإقليميين، موضحاً أن هذه الرحلة تركّز أيضاً على الجانب الإقليمي ما وراء حدود أنغولا. (يعكس نصّ البيان ضبابية وتيهاً).
قبل التعرّض لأسباب الاستدراك الأميركي لأفريقيا؛ وفرص نجاح الزيارة ومحدّداتها؛ ولماذا أنغولا تحديداً؛ فإنّ الوقائع والشواهد تقول إن القارة الأفريقية سقطت من حسابات الرئيس جو بايدن طوال مدة ولايته، وبالتالي فإن الزيارة تأتي استدراكاً للانتقادات التي وجّهت إلى بايدن، لعدم زيارته للقارة الأفريقية منذ تولّيه الرئاسة عام 2021. على الرغم من وعوده التي قطعها في وقت سابق من ولايته بعد استضافة قمة زعماء الولايات المتحدة وأفريقيا في واشنطن في كانون الأول/ديسمبر 2022.
يُذكر أنّ الرئيس بايدن كان قد أجّل زيارتين لأنغولا؛ الأولى في كانون الأول/ديسمبر 2023، بسبب الحرب على غزة، والثانية في تشرين الأول/أكتوبر 2024، بسبب إعصار ميلتون الذي ضرب ولاية فلوريدا.
رغم التأكّل الملحوظ للحضور الأميركي في القارة الأفريقية لصالح التمدّد الصيني الروسي؛ ورغم أنه لم تطأ قدمَا رئيسٍ أميركي القارة الأفريقية منذ أكثر من تسع سنوات. إلا أنه يلاحظ أنّ الاستدارة الأميركية للقارة الأفريقية تأتي في الوقت الضائع؛ ولا يبدو أنّ ذلك حكر على الرئيس جو بايدن، فالرئيس الأسبق باراك أوباما رغم أنه زار أفريقيا ثلاث مرات إلا أنّ زيارته الأخيرة صيف عام 2015 جاءت في الأيام الأخيرة لولايته، بعد زيارتين سبقتاها في عامي 2009 و2013. بينما لم يقم الرئيس دونالد ترامب خلال ولايته السابقة بأيّ زيارة للقارة الأفريقية. بينما قام الرئيس الصيني شي جين بينغ مثلاً بزيارة أفريقيا ثلاث مرات. وكانت زيارته الأخيرة إلى جنوب أفريقيا في آب/أغسطس 2023 لحضور قمة مجموعة "البريكس".
يحاول الرئيس بايدن في اللحظة الأخيرة ترميم التأكّل وسياسة الإهمال الحاصلة للدور الأميركي في القارة الأفريقية، وبالتالي فإن الزيارة تهدف الى جملة محدّدات أهمها: الإدراك الأميركي بأن أفريقيا لن تكون على أجندة وأولية واهتمام الرئيس العائد إلى البيت الأبيض دونالد ترامب، الذي وصف هذه الدول "بالحثالة"، رافعاً شعار "أميركا أولاً".
لذلك فالزيارة هذه اجتهاد أميركي يهدف لإيهام القارة الأفريقية بأن لها حضور في الأجندة الأميركية وحتى لا يقال لاحقاً بأنه منذ عقد ونصف العقد لم يزُرْ أيّ رئيس أميركي أفريقيا. والأهمّ الوفاء بالوعود التي قطعها الرئيس بايدن على نفسه بزيارة أفريقيا، لأنّ عدم القيام بالزيارة سيوحي ويؤكّد للأفارقة بأنّ واشنطن شريك لا يعوّل عليه ولا يصدق في وعوده.
ومن بين محدّدات الزيارة أيضاً منع التدحرج الأفريقي الحاصل صوب موسكو وبكين، ومحاولة استدراك التمدّد الروسي الصيني في أفريقيا على حساب الحضور الأميركي الذي وصل إلى حدّ الطلب من القوات الأميركية الانسحاب من بعض الدول الأفريقية.
وتسعى واشنطن من خلال الزيارة إلى تحصيل تأييد أفريقي لها في المحافل الدولية، بعدما تلاشى ذلك واتضح جلياً خلال الحرب الروسية الأوكرانية وخلال التصويت الأفريقي في الأمم المتحدة الذي عارض المصالح والتطلّعات الأميركية، واتضح بشكل أكبر وأكثر في المواقف الأفريقية من حرب الإبادة المتواصلة على قطاع غزة خاصة موقف جنوب أفريقيا، ودعم الدول الأفريقية للمواقف والحقوق الفلسطينية.
تبني واشنطن محددات سياستها الخارجية على مبدأ المصلحة، وبالتالي فإنّ الاستدارة للقارة الأفريقية قائمة على ذلك وحده، وعليه فإنّ قرار بايدن في زيارته الأولى والأخيرة لأفريقيا وإن تبدأ من أنغولا، التي لم تكن يوماً على أجندة الولايات المتحدة الأميركية، وأوّل التقاط أميركي حدث لها كان مطلع تسعينيات القرن الماضي وبعد عقدين تقريباً من استقلال أنغولا عام 1975، وأول زيارة لمسؤول أميركي لها كانت زيارة وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في أيلول/ سبتمبر 2023. قرار محدّد ومحكوم بالمصلحة الأميركية، وهناك رغبة لإدارة بايدن في سحب أنغولا ذات التوجّهات الماركسية السابقة من أيّ نفوذ روسي. فأنغولا ثالث أكبر منتج للنفط في أفريقيا.
إن اختيار أنغولا كأوّل وآخر رحلة يقوم بها بايدن إلى أفريقيا كرئيس، جاء نتيجة لموقعها الاستراتيجي الهامّ على المحيط الأطلسي في الجنوب الأفريقي. وغناها بالثروات المعدنية، واحتياطاتها النفطية التي تقدّر بنحو 9.1 مليارات برميل، فضلاً عن 11 تريليون قدم من الغاز الطبيعي، علاوة على معادن الألماس والذهب، والموارد النادرة مثل الكوبالت والكولتان.
وتكشف زيارة بادين لأنغولا مدى أهمية ممرّ لوبيتو بالنسبة للولايات المتحدة، وهو مشروع متعدّد الجنسيات ضخم لإعادة تأهيل خط سكة حديد يبلغ طوله 1300 كيلومتر يربط البلدان الداخلية الغنية بالمعادن بميناء لوبيتو على المحيط الأطلسي في أنغولا. ومن المقرّر أن يبدأ مشروع ممر لوبيتو في أوائل عام 2026، وسينقل الموارد الحيوية للاقتصاد العالمي، بما في ذلك النحاس والكوبالت، من المناجم في جمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا إلى ميناء لوبيتو في أنغولا. وقد وصف بايدن المشروع بأنه "أكبر استثمار أميركي في مجال السكك الحديدية في أفريقيا على الإطلاق".
ويعدّ مشروع ممرّ لوبيتو جزءاً من المعركة الجيوسياسية بين الولايات المتحدة وحلفائها والصين، التي تمتلك مناجم في جمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا ضمن مجموعة من الاستثمارات في المنطقة. وهناك رغبة أميركية لمواجهة النفوذ الصيني من خلال سحب أنغولا من مشروع الصين الاستراتيجي "الحزام والطريق". لذلك، لا غرابة في أن تسعى واشنطن لإيجاد موطئ قدم لها في أنغولا من خلال الاستثمار في مشروع ممرّ لوبيتو الأطلسي للسكك الحديدية.
وتعدّ أنغولا بحكم موقعها الاستراتيجي البحري على المحيط الأطلسي، وكذلك موقعها البري، إحدى الدول المحورية الرئيسية فيه، كونها ممراً للبضائع الصينية عبر السكك الحديدية التي أنشأتها الصين نحو أفريقيا.
استدارة الوقت الضائع في الزيارة التي يقوم بها الرئيس جو بيدن لأنغولا، تسير باتجاه واحد وعائد وحيد هو المصلحة الأميركية من دون مراعاة للمصالح الأفريقية عموماً ومصلحة أنغولا على وجه الخصوص، وزيارة بايدن لأنغولا تهدف لمحاصرة النفوذ الصيني الروسي أولاً، والتوظيف الاستراتيجي لموقع أنغولا، واستغلاله في المشاريع الاقتصادية الأميركية في القارة الأفريقية.
طريق بايدن لأفريقيا عموماً؛ ولأنغولا تحديداً ليس ممهّداً كما تظنّ واشنطن، فهو بالإضافة إلى التنافس والوجود الروسي الصيني، فإنه يتعثّر ويصطدم بعدم ثقة أفريقية شعبية ورسمية بالوعود الأميركية، وفي معادلة التمدّد يلاحظ ميل أنغولا باتجاه الصين، وقد اختارت أنغولا مؤخّراً الحصول على القروض الصينية بدلاً من الحصول عليها من مؤسسات مثل البنك الدولي. وابتزازه وشروطه.
وعليه فإن انتزاع واشنطن لأنغولا من روسيا والصين غير ممكن وغير متاح ولا سيما أنّ بايدن الذي لم يلتفت أو يستدر ويلتقط أفريقيا خلال رئاسته؛ يريد تحقيق ذلك في الوقت الضائع والساعة الأخيرة من ولايته.
إن استعادة الحضور الأميركي في القارة الأفريقية، واحتواء أنغولا ومحاصرة التمدّد الصيني الروسي فيها، بحاجة لأكبر وأكثر من مجرد زيارة يقوم بها بايدن، وعندما تقرّر الولايات المتحدة تحسين علاقاتها بأفريقيا، فإنّ الأمر بحاجة إلى وقائع حقيقة وموضوعية ندّية لا فوقية، وعلاقات تبادلية ودعم اقتصادي من دون استغلال وليس مجرّد وعود، والعلاقات لا تبنى على الوعود ذلك أنّ بايدن دعم ووعد بتوسعة مقاعد مجلس الأمن ليصبح لأفريقيا مقعدان دائمان لكنه يغادر الآن البيت الأبيض ولم يفِ بوعده.
ثابت العمور
باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية - فلسطين