
4 عقود من العلاقات.. تقارب عُماني روسي في زمن الاضطرابات الدولية
تواصل سلطنة عُمان تعزيز علاقاتهما الثنائية مع روسيا الاتحادية من خلال مسارات متعددة، تتجاوز الإطار الدبلوماسي إلى مجالات الاقتصاد والاستثمار والطاقة.
وعلى الرغم من التحولات الجيوسياسية المتسارعة، نجحت الدولتان في الحفاظ على قنوات تواصل مستقرة وفعّالة، انعكست في نمو التبادل التجاري، وتزايد المشاريع المشتركة، وتنسيق المواقف في قضايا إقليمية ودولية.
علاقات متجددة
وتأتي الزيارة الأولى لسلطان عُمان، هيثم بن طارق، إلى موسكو في لحظة سياسية بالغة الحساسية إقليمياً ودولياً، لتمثل مرحلة جديدة في علاقات البلدين، وذلك بعد مرور أكثر من أربع سنوات على توليه مقاليد الحكم في السلطنة.
الزيارة التي استمرت يومين (21-22 أبريل) بدعوة رسمية من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لا تندرج فقط ضمن الأطر البروتوكولية، بل تحمل بين طيّاتها رسائل استراتيجية تعبّر عن رغبة عُمانية واضحة في توسيع هامش الشراكات الدولية في ظل مشهد عالمي مضطرب، خاصة في المنطقة التي تشهد تصعيداً متسارعاً بأكثر من ساحة.
وبينما تحتفي الدولتان بمرور أربعة عقود على إقامة العلاقات الدبلوماسية، يبدو أن مسقط تحرص على تجديد هذه العلاقات بما يتجاوز البُعد الرمزي نحو تفعيل أطر التعاون الفعلي في مجالات الاقتصاد والطاقة والدبلوماسية، كما تشير إليه الاتفاقيات ومذكرات التفاهم المتوقع توقيعها خلال الزيارة.
اتفاقيات استراتيجية
وتُوجت الزيارة التاريخية في قصر الكرملين بالعاصمة موسكو بحضور السلطان هيثم والرئيس بوتين، بالتوقيع على حزمة من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي تغطي مجالات حيوية ومتنوعة، مما يعكس حرص القيادتين على تعميق التعاون الاستراتيجي وتوسيع آفاقه.
وتضمنت اتفاقية الإعفاء المتبادل من التأشيرات، وبروتوكول التعاون الاقتصادي والفني - مشروع إنشاء لجنة اقتصادية مشتركة، ومذكرات تفاهم حول مسائل تغيّر المناخ والتنمية منخفضة الكربون، وفي مجال النقل والعبور، والتعاون في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
جاء هذا التوقيع عقب جلسة مباحثات رسمية بين الزعيمين في القصر الكبير بالكرملين، حيث أكد بوتين على اهتمام بلاده بتعزيز العلاقات مع سلطنة عُمان، خاصة في قطاع الطاقة.
وأعرب السلطان هيثم عن اهتمام السلطنة بتطوير العلاقات الاقتصادية مع روسيا، مشدداً على قوة العلاقات بين البلدين والسعي لجعلها "ذات طابع خاص ومميز".
وأوضح السلطان أن مباحثاته مع الرئيس الروسي "تركز على بناء علاقات متينة طيبة بين البلدين خلال الفترة الماضية، ويكمل البلدان خلال هذه الأيام 40 عاماً على إقامة العلاقات الدبلوماسية،
ويسعى البلدان في الوقت الراهن على جعل هذه العلاقات متميزة ومفيدة تخدم مصلحة الشعبين الصديقين".
من جهته، صرّح بوتين قائلاً: "لدينا تاريخ طويل وتواصل مستمر بين روسيا وعُمان، ونتطلع لتطوير العلاقات الثنائية في مختلف المجالات"،
وأضاف أن البلدين يعملان على تعزيز التعاون في مجالات اللوجستيات، والنقل، والاستثمار المتبادل، والزراعة، مشيراً إلى أهمية تطوير العلاقات التجارية والاقتصادية والتعاون بين الصناديق السيادية.
وشملت مذكرات التفاهم أيضاً التعاون في المجال السمكي، وفي المجال الإعلامي والإخباري وتبادل المعلومات، وبين الأكاديمية الدبلوماسية في عُمان والأكاديمية الدبلوماسية الروسية، وبين غُرفة تجارة وصناعة عُمان ومؤسسة روسكونغرس الروسية، وبين الأكاديمية السلطانية للإدارة والأكاديمية الرئاسية الروسية للاقتصاد الوطني والإدارة العامة، وفقاً لوكالة الأنباء العمانية.
أهمية الزيارة
ويرى الباحث الدكتور حبيب الهادي أن زيارة السلطان هيثم التاريخية إلى روسيا تأتي ضمن الزيارات المكثفة له، سواء في أوروبا أو آسيا، "ما يدل بوضوح على إرادة سلطانية لإبراز مكانة عُمان على خريطة الاقتصاد العالمي، ولا سيما في قطاع الطاقة".
ويضيف أن هذه الجهود تأتي في إطار سعي سلطنة عُمان لتحقيق رؤية 2040، وتعزيز استراتيجيتها لجذب الاستثمارات الخارجية، خاصة مع مشاركة وزراء التجارة والصناعة والاستثمار، ورئيس جهاز الاستثمار العُماني في هذه الزيارة.
وأوضح أن الزيارة تجمع بين الجانبين السياسي والاقتصادي، مع بروز الجانب الاقتصادي بشكل ملحوظ في زيارات السلطان الأخيرة، والتي تركز في معظمها على توقيع مذكرات تفاهم وعشرات الاتفاقيات الاقتصادية، كما حدث في تركيا وسنغافورة والهند وماليزيا وبلجيكا وهولندا وروسيا، بالإضافة إلى زيارات سابقة إلى السعودية والإمارات والكويت.
كما يعتقد الهادي أن هذه الزيارات "تدل بوضوح على سعي السلطان لإبراز قوة عُمان التجارية والاقتصادية والسياحية والاستثمارية".
ويشير إلى أن هذه الزيارة تجمع بين الجانب السياسي، لكون روسيا دولة مؤثرة في السياسة العالمية وداعمة للقضية الفلسطينية والاستقرار في المنطقة، والجانب الاقتصادي الذي يشمل اتفاقيات في مجالات السياحة والطاقة والاستثمار.
ويتوقع الهادي أن تثمر الزيارة نقلة نوعية في العلاقات السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية بين عُمان وروسيا، خاصة مع مشاركة الأمين العام للمتحف الوطني في الوفد، ما يدل على حجم التبادل الثقافي والفكري والمعرفي والمتحفي بين البلدين.
مصالح مشتركة
أما المحلل السياسي الروسي تيمور دويدار، فيؤكد أنه في ظل تفاقم تداعيات العقوبات الغربية على روسيا، اتجه قطاع الأعمال الروسي نحو الدول المصنفة رسمياً بـ"صديقة"، والتي تشمل غالبية الدول العربية وبالتحديد دول الخليج.
ويبين أن الغرض من هذا التوجه هو توزيع المخاطر في التجارة الدولية، وإيجاد أسواق وفرص تجارية جديدة، وذلك بعد تعثر التعاون الاقتصادي مع دول مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي.
ولفت دويدار إلى أن الصورة الإيجابية لعُمان في روسيا تشجع رجال الأعمال على إقامة مشاريع فيها ونزوح العائلات إليها؛ للاستفادة من الفرص المتاحة في أسواق الخليج وأفريقيا.
ويشيد بالدور الحيادي للسلطنة في القضايا العربية والإقليمية، معتبراً ذلك "قيمة ثمينة في ظل أحداث الشرق الأوسط، وبالأخص دور الوساطة العُمانية في خفض التوتر في الملف الأمريكي الإيراني".
وفي هذا السياق تحديداً، يرى أهمية اللقاء التاريخي في موسكو، حيث يهم هذا الملف الجانبين وقد يكون موضوعاً ذا أولوية قصوى.
بدوره يؤكد الباحث حارث الخروصي أن موقع عُمان الحيادي وأهميتها الاستراتيجية للطاقة والتجارة يجذبان روسيا، خاصة مع العقوبات الغربية، وفي المقابل تبحث السلطنة عن تنويع اقتصادها وجذب الاستثمارات.
ويشير، إلى أن مستقبل هذا التعاون مرهون بالتقلبات السياسية والاقتصادية العالمية، لا سيما مع عودة ترامب وتأثير الحرب الاقتصادية بين الصين وأمريكا.
ويأمل الخروصي أن تثمر الاتفاقيات الموقعة بين البلدين عن تبادل اقتصادي وتعاون سياسي يخدم السلام العالمي، لكنه يحذر من تحديات جغرافية وجيوسياسية، وتأثير الصراع الاقتصادي العالمي.
وتطرق الباحث إلى تأثير التنافس الإقليمي والعالمي على دول الخليج، مؤكداً أهمية قطاع الطاقة كسلاح استراتيجي في التوازنات الدولية، وتنامي قوة تحالف "بريكس" كتهديد للهيمنة الأمريكية والدولار.
التجارة والاستثمارات
شهدت العلاقات الاقتصادية بين عُمان وروسيا تطوراً ملحوظاً، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين بنهاية عام 2024 أكثر من 346 مليون دولار.
وتشير وكالة الأنباء العُمانية إلى أن أبرز صادرات السلطنة إلى روسيا تتمثل في المنتجات المعدنية، والنيتروجين، والفوسفور، والبوتاسيوم، والتمور، والأسماك، والألمنيوم، والعطور، وأحجار البناء،
فيما تتركز الواردات من روسيا على القمح، والأسمدة، والآلات، وقوالب الفحم، ومعدات معالجة المعادن، والمنتجات الحديدية، والخضراوات.
وقد بلغ عدد الشركات المسجلة التي بها إسهام روسي في سلطنة عُمان، حتى عام 2024، قرابة 277 شركة، بإجمالي استثمارات تتجاوز 30 مليون دولار، أي بنسبة 84.6% من إجمالي رأس المال المستثمر في هذه الشركات.
تحظى العلاقات الاقتصادية بين روسيا وسلطنة عُمان باهتمام متزايد، خاصة مع منح السلطنة صفة "الدولة ضيفة الشرف" في منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي لعام 2024.
ويعكس هذا التكريم المستوى المتقدم من الشراكة بين البلدين، والتي تعززت بشكل ملحوظ منذ عام 2022، في ظل تحولات السياسة الدولية وتداعيات الحرب في أوكرانيا.
وتُعرف عُمان بدورها المتوازن والحيادي في الملفات الإقليمية والدولية، مما أكسبها لقب "سويسرا الشرق الأوسط"، وأسهم في تعزيز ثقة موسكو بها كشريك اقتصادي واستراتيجي.
وبحسب تقرير لوكالة "بلومبيرغ"، في يونيو 2024 فإن عُمان تمثل وجهة جاذبة للشركات الروسية التي تبحث عن بيئة مستقرة خارج نطاق العقوبات الغربية، وقد شهدت الفترة الأخيرة انتقال شركات روسية من دبي إلى مسقط، نتيجة ارتفاع تكاليف المعيشة وتشديد الرقابة المصرفية في الإمارات.
كما نفذت صناديق استثمار عُمانية مملوكة للدولة صفقات مهمة في روسيا، منها شراء حصة في شركة "ديميترا هولدينغ" المتخصصة في تصدير القمح، وشراء حصص في شركة التعدين "بولي ميتال إنترناشيونال".
بالإضافة إلى ذلك، قام "بنك الاستثمار العُماني" بتعيين عدد من المديرين التنفيذيين السابقين في بنك "VTB" الروسي، في خطوة تعكس تعميق الروابط المؤسسية بين الجانبين.
وقد أصبح ساحل سلطنة عُمان محطة مهمة في مسار شحنات النفط الروسي المتجهة إلى آسيا، خصوصاً الهند، فيما تشير تقارير إلى أن التبادل التجاري بين موسكو ومسقط ارتفع بنسبة 60% في عام 2023، مما يدل على تسارع وتيرة التعاون التجاري.