
البردوني وذكرى الاغتيال
الحقيقة المرة هي أن البردوني أغتيل مرتين وفي كل اغتيال وجهت له عدة طعنات بخناجر مسمومة ورماح حاقدة ومفاهيم قاصرة وجهل مستشر ، تكالبت عليه سهام الضيم من كل حدب وصوب وداهمته رياح العمى من كل اتجاه وناحية ، لكن لأنه ولد جبلا وعاش جبلا ومات جبلا ، لم تظهر تلك المؤامرات ولم تتضح تلك الدسائس ولا أثرت فيه الطعنات فأنى لجبل أن يقطر بالدم أو يهتز من ريح أو تصرعه أفعى ، هذه الحقيقة هي ماستتضح مفرداتها وتنجلي عتماتها في سياق هذا الرصد الذي لا ينفي محبة الناس له وتقديره وإجلاله يمنيا وعربيا وعالميا ، وفي هذا السياق سأحاول الابتعاد عند الحدية وتحديد جهات فالعدوات المبطنة ضد البردوني لم تكن عداوات شخصية ولم تتخذ أسلوب المجاهرة فكانت مثل الماء الذي يجري من تحت التبن ، ولها عدة جهات وأشخاص ، فهو لم ينتمِ لفصيل سياسي أو طائفة مذهبية أو ناحية جهوية ولم يداهن حاكما أويتزلف لنظام أو يسكت على باطل ، وبسبب هذه الاستقلالية التي تمخضت عنها مواقفه الصلبة والمبدئية ضد كل ما يتنافى مع حرية الإنسان وحقوقه ورفض الاستغلال الديني في السيطرة على الحكم وممارسة الأفراد للملكية بجلباب جمهوري ، وانتقاده اللاذع للاختلالات ممن كانت ، فقد أضمرت له تلك الجهات عداء غير معلن .
فلم يحظ بالتلميع الحزبي أو المساندة المذهبية أو الدعم الحكومي ، وهنا قد يقول قائل إن البردوني لم يكن بحاجة لمثل هذه الركائز وأؤيده في ذلك تماما ، فالبردوني أكبر من حزب وأوسع من طائفة وأعظم من حكومة ، ونحن هنا لا نعني مسألة الشهرة والترويج الإعلامي فهو أشهر من صخر الخنساء .. العلم الذي على رأسه نار ، وإنما نقصد ما خلف ذلك من بُعدٍ وتأثير على حياة البردوني أو نقش مكانته المستحقة في ذاكرة الأجيال كإنصاف لدوره الريادي ونضاله الجسور في تفجير الثورة .
البردوني ضمير الثورة
يتم تناول البردوني كأديب وشاعر ومثقف ، لكن أي من الدراسات لم تتناوله كثائر وواحد من أبرز قادة الثورة إن لم يكن هو القائد الفعلي الذي أشعل شرارتها وأوقد شعلتها و حمل مشعلها وظل وفيا لمبادئها والسير على نهجها - وهنا تظهر أولى الطعنات لذلك الاغتيال - فنرى التمجيد لمناضلين لا ننكر دور بعضهم ، والتلميع لبعض ممن ركبوا الموجة وتسلقوا على حساب الثورة لأنهم ينتمون لهذا التيار أو مدعومين من تلك الجهة ، وجميعهم لا يرتقي دورهم لما قدمه عبدالله البردوني في نضاله من مقارعة لعهد الإمامة ومجاهرة لظلمها في عقر دارها بلغت للمواجهة يوم الجلوس وأمام الملأ ، ناهيك عن الدور الفاعل الذي قام به من تنوير وتوعية في أوساط الشعب ، ابتدأت من تبصير الناس عبر ( فتواه ) بأن الإمام ( غير مالك ) لهم ولم تنتهِ بالـ (عتاب والوعيد ) أو توقف عند ( ذات يوم ) وإنما امتد ذلك النضال حتى آخر رمق في حياته وما أحوجنا لدراسة البردوني كثائر ومناضل حر .
وإذا كان لسبتمبر رموز ولرموزه ألقاب كأبي الأحرار أو مارد الثورة أو شاعر الثورة وغيرها ، فالبردوني مارد سبتمبر الذي يشترك مع تلك الدبابة في زلزلة العرش وزعزعة بنيانه ، فالكلمة أشد فتكا وأنفذ وصولا وأكثر تبصيرا ، وأقل شيء أن نطلق عليه لقب ( ضمير الثورة ) لأنه ضميرها الحي والصادق والأمين الذي لم يهن ولم يخن ولا حال أو مال عن أهدافها .
لن أسهب في هذه الجزئية فالحديث أكبر من أن يشبعه مقال أو تغنية فقرة ولكنها إشارة للتنبيه بضرورة الالتفات إليها من باب الإنصاف أو إعطاء كل ذي حق حقه .
ليتواصل سيناريو الطعن في ظهر ذلك الطود داخل كل مشهد من مشاهد مسلسل الاغتيال في حياته ، ولك أن تتصور أو تتخيل إن البردوني الذي سكنت كل ذرات اليمن في قلبه مات واليمن وحكامها لم يمنحوه سكنا لا من الشقق الموزعة ولا من مباني الدولة ومدنها السكنية أما الأحياء المخصصة لقصور وفلل اللصوص وحمران العيون، فلم نحلم نحن أن يسكن فيها، فلقد كان أعمى لا حمرةٌ في عينيه ولا قترة نفاق في جبينه ،
أغتيل البردوني في حياته ، فلم تكرمه الدولة اطلاقا - التكريم المستحق كعلم ملأ الدنيا صيته وعرفت اليمن باسمه - وإنما أضيف على مضض إلى نفر من الأدباء منحوا وسام الدولة - لا ننكر استحقاقهم لذلك الوسام فمكانتهم الأدبية كبيرة وهم من خيرة أعلام اليمن - لكن البردوني كان أعلى منهم شأنا وأرفع مكانة وأوسع إنتشارا ، وتكريمهم مع تجاوزه سيفضح العداء المبطن ويكشف الغل الدفين .
مات البردوني دون أن تطبع له الحكومة كتابا واحدا في حياته ، وكان يسخّر ما يناله من جوائز خارجية لطباعة كتبه وبيعها بسعر زهيد لا يصل لتكلفة الطباعة من أجل أن تكون في متناول الناس وخاصة البسطاء والمعدمين ، لتأتي طعنة أخرى لها طعم المرارة وبيدها ترمومتر الانحناء ويجد البردوني نفسه في أدنى سلم التصنيف الوظيفي الذي لا يعترف بالأدب ولا بالهامات الوطنية وإن كانت في حجم أعلى جبال اليمن وأشمخها عبدالله البردوني ، فهل ينحني وهل يصرخ وهل يشكو .. أبدا لم يفعلها ، ولكن حياء من بقي في وجههم حياء وخجل من استشعروا فداحة المصيبة وكارثة الخزي ممن علموا بالأمر فتكاتفوا وشكلوا لوبي ضغط لمنح البردوني درجة رئيس وزراء .. درجة تحفظ للدولة ماء الوجه ، وبعد إلحاح وإصرار لتفادي هذا العار وتحت ضغط شديد تم منحه درجة وزير بلا وزارة أو درجة تكفل له راتب مواطن بلا امتيازات
هذه كانت قطرة من بحر مسلسل الاغتيال الذي لاقاه جبلُ اليمن ومبصر أزمانها وحكيم عصورها الشاعر العظيم / عبدالله صالح البردوني .. في حياته فماذا عن اغتياله ميتا .
ذكرى الاغتيال
لم تكتف الجهات الرسمية بالجزء الأول من مسلسل الاغتيال للبردوني الذي انتهى بموته ولم تنشر أو تذاع تفاصيل حلقته الأخيرة والتي تفوق في ألمها مجمل الحلقات السابقة مما ذكر منها ومما لم يذكر .
ليستمر هذا المسلسل اللعين في نهش جسد البردوني وإيذاء روحه ومحو آثاره وطمس تاريخه عبر الجزء الثاني الذي لا يقل ضراوة وشراسة عن سابقه ، ويشترك مع الدولة في بطولة هذا التنكر والإجحاف
الجميع من أهل وصحب ورفقة الكل ، قصر وخان وتواطئ في هذه الجريمة .. نعم الجريمة التي ارتكبناها في حق البردوني ابتداء من الدولة ومرورا بالورثة وصولا لآخر محب للبردوني
اليوم نسي البردوني أو تناسيناه ، الدولة شطبت اسمه من سجل التعداد السكاني ومن كشوف الوفيات اليمنية ، فلا يغرنك ذر الرماد بإقامة فعالية تجمد المشاهد أمام بشاعة الغدر والنكران .
المثقفون والأدباء والإعلاميون لم يحركوا ساكنا لم يتخذوا موقفا لم يخرجوا احتجاجا من أجل البردوني .
وما تقوم به بعض الأقلام الوفية أو الأشخاص المخلصين - ممن رحم الله - ونراها تناوش هنا وتسهم هناك هي جهود شخصية حتى بتذكيرها للجهات المعنية وبعضها لا يخلوا من الاستغلال .
المنزل الذي سكنه في الحي السياسي دارت حوله خلافات المليكة فلم تكلف الدولة نفسها شراءه وتحويله إلى منتدى أو مؤسسة ثقافية تستمد من بصر البردوني نورها وتسقي الأجيال أنهار ثقافته وسواقي ينابيعه .
منزله الذي خرج منه اللص خالي الوفاض في ( بستان السلطان ) تهدم وأصواتنا بحت من أجل إعادة بناء أطلاله الذي لا تكلف قيمته ثمن سيارة وزير من وزراء الغفلة .
قمنا في الذكرى الـ 24 بتظيف ساحة منزله من القمامة ونشرنا ذلك عبر وسائل التواصل ، عل المعنيين يخجلون قليلا ويعملون على منع وصول القمامة إليه ولكن لا حياة لمن تنادي ، رغم أن شارع مكتب أمين العاصمة القصير يبدأ من عند بوابته ، ومكتب وزير الثقافة أقرب إليه من حبل الوريد ، ومع ذلك لم نر أحدا منهم قام بزيارة هذه الأطلال التي تلعننا ليل نهار ، ولم نشاهد أي مسؤول مر عليها مرور الأنفس الشح .
( طبعا نتحدث عن وزراء ومسؤولي صنعاء .. أما معمر الإرياني فهو في شغل مسوم لا يفيق منه ولا هو عنه من الصاحيين ) .
قبر البردوني مخنوق ياولدي مخنوق مخنوق مخنوق ، لم يتركوا حوله موضع قدم ولا أفسحوا لزيارته ممرا ولا احترموا لحرمته قدرا ، تطوقه الأشواك من كل ناحية ، طالبنا وطالبنا وفي مقدمتنا الأستاذ محمد القعود والأستاذ جميل مفرح بنقل رفاة جثمانه إلى موضع يليق بعظمته ولا مجيب ، كُتب البردوني اختفت من الأسواق والمكتبات ولم تكلف حكومة من الحكومات أو وزارة من الأوزار المحسوبة علينا أو هيئة للكتاب نفسها إعادة طباعتها ، ما عدا بادرة يتيمة قام بها وزير الثقافة الأسبق خالد الرويشان أثناء فعاليات صنعاء عاصمة للثقافة العربية ، من طباعة لدواوينه الشعرية في طبعة نخبوية لم تصل للمواطن ، وربما كانت سبب تغييره .
موروثه ومخطوطاته في مهب الريح تناهشتها مخالب ( الشاطر علي ) ومطامع الورثة ، وما يخرج منها الآن محل خلاف بين الكثير
ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي
وهل هناك أفظع مما نراه من اغتيال لا يكلّ من توجيه فحيح غدره لقبرٍ تسكنه نسائم السنا وخمائل الشعر ورفاة طير شدى ليرفعنا وغرد ليلهمنا وشتت نفسه ليجمعنا
ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي أأقول هانت أأقول خانت وكيف لا أقولها وهي لم تصغ لصوت تقطعت حباله راجية تسمية الطريق الممتد من الحصبة إلى المطار باسم البردوني وفيه تشريف لها يمنحها مكانة السؤدد وينحت اسمها في زبور الوفاء
ماذا أحدث عن صنعاء يا رفقتي
أأقول مليحة وقد تعاظم فيها السل ، فبخل من وضع البردوني في صندوق كصندوق وضاح قبل أن يهوي به في بئر لا يزورها ضوء العرفان ولا رياح الامتنان .
إن الحديث عن البردوني ذو شجون والآهات فيه متشعبة النهدات والأسى تضج به الجهات
فعن أي ذكرى نتحدث غير ذكرى الاغتيال وأنى لنا أن نحييها ونحن لم نحي صاحبها بجائزة تحمل اسمه او درع يخلد مكانته ولم نسم مدرسة باسمه ولا وضعنا صورته على عملة ولا صنعنا له تمثالا على الأقل نجرب قوة إيماننا وهل سنعود إلى عبادة الأصنام أم أن عبادتها القائمة تكفي ليكتمل السل بصنوه الجرب في ذكرى هي أقرب للتذكير بفداحة الاغتيال منها لإحياء ذكرى البردوني
رضوان الله عليه .
سعد الحيمي