
عندما يصبح الوطنُ خيارًا ثانويًّا
الهوية والألم الممتد
في اليمن اليوم، يبدو أن فكرة الوطن وحبّه والولاء له باتت رمادًا تحت أقدام الزمن الطويل. الولاء لم يعد للوطن بذاته، بل صار متعلقًا بالقبيلة، الحزب، المذهب أو الموقع الجغرافي.
هذا الانقلاب في الولاءات لم يولد فجأة، بل نتاج عقود من الفساد، وإهمال التعليم، وتغييب المواطنة، وغياب مفاهيم الهوية الوطنية الجماعية.
الفساد والمحسوبية: استنزاف الثقة الوطنية
منذ توحيد اليمن عام 1990، والحكومات متهمة بتوزيع المناصب والموارد على أساس الولاء الحزبي أو العائلي أو القبلي، ليس على أساس الكفاءة أو المصلحة العامة.
موقع Yemeni Peace Committee ينقل أن الأحزاب السياسية استخدمت المنصب سبيلاً لتقاسم السلطة والامتيازات، مما أوصل الدولة إلى شرخ عميق مع المواطنين.
التعليم المُشوَّه
إعادة إنتاج الولاء الضيق التعليم هو الوسيلة التي تُنشأ بها العقول وتُرسّخ الولاء. لكن في اليمن، أصبحت المدارس أدوات لصياغة الولاءات الحزبية أو المذهبية.
تقارير من Carnegie Endowment تشير إلى أن بعض المناهج في المناطق الخاضعة للحوثيين جرى تعديلها لتضمين محتوى يمجد الحركة،
وتغيّب الوطنية الجامعة. كما يشيرYemen Policy Center إلى أن طلاب المدارس في عدة أماكن لا يرفعون علم الجمهورية أو يسمعون النشيد الوطني في التجمعات الصباحية، بل يُستخدم النشيد أو العلم المرتبط بالجهة المسيطرة محليًّا.
الجهل والإعلام: سلاح يمتدّ بصمت
غياب المناخ الحر للنقاش، وضعف الإعلام المستقل، وتشويه المعلومات كلها عوامل ساعدت على بقاء الولاءات الضيقة.
الإعلام في كثير من الأحيان يُروّج سرديات تفرّق ولا تجمع، ويُغذي الخوف من المختلف، في حين يُفترض أن يكون جسرًا للمعرفة. عندما يغيب النقاش الوطني الصحي، يُصبح المواطن عرضة لأن يُشكّل هويته من خلال الانتماءات الثانوية.
الإفلات من المساءلة وتهميش الشباب
الشباب، الأكثر تضررًا من سياسات تهميش مستمرة، يشعرون أنهم ليسوا جزءًا من صنع القرار. معدلات البطالة، إغلاق المدارس، غياب الخدمات، قلة الفرص كلها عوامل تجعلهم يلجؤون إلى الولاءات الضيقة بوصفها ملاذاً وظيفياً أو اجتماعياً.
هذا التهميش يولّد إحباطاً كبيراً يُسهم به التعليم المتأزم والمؤسسات التي تُدار بالولاء لا بالكفاءة.
خاتمة: إعادة بناء الولاء الوطني
لا يمكن العودة إلى معنى الوطن الحقيقي إلا بإصلاح شامل يبدأ من التعليم، والقضاء على الفساد، وإعادة الثقة بالمؤسسات. الوطن لا يُبنى بمجرد رفع العلم أو القول "أنا ابن هذا البلد"، بل بالعمل اليومي، بالمشاركة، بالعدل، والمساواة.
حين يُصبح الولاء للوطن هو الأولوية، وليس للقبيلة أو الحزب أو المنطقة، هناك يبدأ الشفاء، ويُستعاد معنى المواطنة الحقيقية.
جميل هزبر
كاتب ومدون يمني.