
عودة إجبارية إلى الورق.... قراءة في بيان "مجلس القيادة الرئاسي"
أتصور أن البيانات السياسية، في لحظات التحول العاصفة، لا تكون مجرد إعلان موقف، بل مرآة تكشف عمق الأزمة في بنى السلطة ومعنى الدولة.
والبيان الصادر عن مجلس القيادة الرئاسي اليمني يندرج في هذا الإطار؛ إذ يتجاوز ظاهر التأكيد على "وحدة المجلس والتماسك" إلى جوهر أكثر خطورة، يتمثل في استدعاء النص المؤسِّس لإعلان نقل السلطة كمعيار وحيد لشرعية القرارات، وما يترتب على ذلك من مراجعة شاملة قد تضع المجلس أمام امتحان حاسم لقدرته على تصحيح المسار، أو انكشاف عجزه أمام مأزق الانقسام.
في العادة البيانات السياسية ليست انعكاساً مباشراً للنوايا المعلنة بقدر ما هي إفصاح عن أزمات مضمرة. والبيان الصادر عن مجلس القيادة الرئاسي في 18 سبتمبر (أيلول) 2025 يمثل نموذجاً صارخاً لذلك، إذ جاء ليؤكد على "وحدة المجلس والتماسك"،
لكنه في جوهره يعكس تحولاً عميقاً في طبيعة النقاش داخل المجلس، من خلاف سياسي يمكن احتواؤه بالمواءمة، إلى ملف قانوني مفتوح يطاول القرارات جميعها منذ لحظة التأسيس في 7 أبريل (نيسان) 2022.
فالبيان لم يستهدف فقط القرارات الأخيرة التي أصدرها عضو المجلس عيدروس الزبيدي في 10 سبتمبر 2025 – والتي بدت مخالفتها للقانون أوضح من الشمس في كبد السماء (وقد أوضحتُ هذا الأمر في مقالي الأخير تحت عنوان: السلطة الشرعية في اليمن حين تتحول إلى مسرح انقسام) –
وإنما ذهب أبعد من ذلك حين أقر مراجعة جميع القرارات التي صدرت عن المجلس منذ نشأته. هذا التحول يشي بجدية واضحة في التعامل مع ما طُرح من قِبل عضوي المجلس فرج البحسني وعبد الرحمن المحرمي في ما يتعلق بالانفراد باتخاذ القرارات في مجلس القيادة الرئاسي (لم يعترضا على عدم قانونية قرارات الزبيدي، ربما لكونهما نائبين لرئيس المجلس الانتقالي الجنوبي)، و
هو ما يرسّخ أن القضية تجاوزت الطابع الفردي إلى الإطار المؤسسي برمته.
إن جوهر الرسالة التي أراد البيان تثبيتها هو أن السلطة في مجلس القيادة الرئاسي جماعية قائمة على التوافق، وأن أي خروج عن هذه القاعدة يُعد انحرافاً عن النص المؤسِّس: إعلان نقل السلطة.
لكن الخطورة في تصوري تكمن في محاولات عدد من أعضاء مجلس القيادة الرئاسي مساواة مناصبهم بمنصب رئيس المجلس على رغم أن صلاحيات الأخير كـ"ربّان" للمجلس واضحة تماماً في نص إعلان نقل السلطة:
ثمة رئيس واحد فقط لمجلس القيادة الرئاسي. هل رأى أحدكم "ثمانية ربابنة" لسفينة واحدة؟
من هنا، فإن المهمة التي أُوكلت للفريق القانوني في اعتقادي ليست مجرد عملية فنية، بل خطوة استراتيجية لإعادة تعريف معنى السلطة ذاتها داخل هذا الكيان.
فضلاً عن ذلك، فإن مراجعة كل القرارات ما بعد 7 أبريل 2022 وإحالتها إلى غربال النص المؤسِّس (بما فيها القرارات العسكرية والأمنية كما هو مفترض) تعني عملياً أن ما تم اتخاذه من قرارات مخالفة قد يُلغى أو يُعاد النظر فيه.
وهذه النقطة تحديداً هي التي تجعل من البيان مفصلاً في مسار المجلس، إذ يضعه أمام امتحان صعب وسؤال عميق:
هل يملك الجرأة السياسية والمؤسسية لتصحيح المسار أم سيظل أسيراً لخطاب وحدة المجلس والتماسك من دون أثر ملموس؟
(سيواجه مجلس القيادة الرئاسي أول امتحان صعب للغاية يتمثل في عدم قانونية مناصب رئيس وأعضاء رئاسة هيئة التشاور والمصالحة التي جاءت بـ"التعيين" وليس "عبر الانتخاب" وفق نص إعلان نقل السلطة).
غير أن السؤال الأعمق يظل قائماً: هل يمكن لمجلس يعاني من انقسام داخلي بنيوي أن يستعيد شرعيته بمجرد مراجعة قرارات سابقة: إلغاؤها أو تصحيحها؟
أم أن الأزمة تتجاوز النصوص القانونية إلى غياب الدولة نفسها كإطار ناظم؟ فحين يتحول القرار السياسي إلى مجال لتنازع الولاءات بين مكونات متباينة التوجهات ومتعارضة الأهداف، يصبح الحديث عن "التماسك" مجرد ستار يغطي حقيقة الانقسام الماثل على الأرض.
البيان، في هذا السياق، يضع المجلس على المحك. فهو اختبار لقدرته على السير في الطريق الذي رسمه النص المؤسِّس لإعلان نقل السلطة، بما يتوافق مع جوهره الوطني الجامع، أو الارتهان لمنطق المحاصصة والانفراد.
وهو اختبار مزدوج: داخلي يتعلق بجدية الأعضاء في الالتزام بالقيادة الجماعية التوافقية، وخارجي يتعلق بقدرة المجلس على طمأنة داعميه الإقليميين والدوليين بأن شرعيته لا تزال قائمة على أسس متماسكة.
النص المؤسِّس ذاته– إعلان نقل السلطة– كان واضحاً في استدعاء المعاني الكبرى: وحدة اليمن وسيادته، استشعار المسؤولية التاريخية، وقف نزيف الدماء، وصياغة دولة مدنية تحقق الشراكة العادلة.
استدعاء هذا النص اليوم لا يعني فقط العودة الإجبارية إلى الورق، بل واستعادة الفكرة التي انبثق منها، أي الدولة بوصفها مشروعاً وطنياً جامعاً لا مجرد توازن هش بين قوى متنازعة.
وهنا تكمن المفارقة، فمراجعة القرارات السابقة قد تكون مدخلاً ضرورياً لتصحيح المسار، لكنها ليست بديلاً عن استعادة الدولة. وإذا ما توقفت العملية عند حدود الإلغاء القانوني من دون بناء سياسي حقيقي، فإنها ستغدو مجرد حركة شكلية تعيد إنتاج الأزمة بدلاً من حلها.
من هذا المنظور التحليلي الفاحص، فإن البيان كما أرى ليس إعلان قوة بقدر ما هو إقرار بالأزمة، ومحاولة لإعادة توجيه البوصلة نحو النص المؤسِّس.
غير أن نجاحه في تصوري سيعتمد على ما إذا كان الفريق القانوني قادراً على تقديم تقرير نزيه وشفاف يضع أمام المجلس قائمة واضحة بالقرارات المخالفة، وعلى ما إذا كان المجلس نفسه قادراً على اتخاذ قرارات شجاعة بإلغائها، بما يتجاوز منطق الترضيات اللحظية.
ومن هي الجهة المسؤولة القادرة على إنفاذ هذه القرارات على أرض الواقع؟
الخلاصة في اعتقادي أن بيان 18 سبتمبر يفتح الباب أمام منعطف خطر في مسار مجلس القيادة الرئاسي، فهو يعيد تعريف العلاقة بين النص المؤسِّس والممارسة العملية على أرض الواقع، ويضع المجلس أمام امتحان الشرعية والجدية.
غير أن الحقيقة الأبعد مدى تبقى على حالها: لا يكفي تصحيح القرارات أو ترديد خطاب "وحدة مجلس القيادة الرئاسي والتماسك"، بل لا بد من استعادة الدولة نفسها كإطار ناظم.
فإما أن يكون المجلس الرئاسي جسراً نحو هذا المشروع الوطني الجامع، وإما أن يتحول إلى ساحة إضافية لتنازع السلطة في غياب الدولة؛
فالأساس الذي لا مفر منه ولا مهرب هو كما جاء- بالضبط- في نص إعلان نقل السلطة الصادر عن رئيس الجمهورية عبد ربه منصور هادي "رغبة في إشراك القيادات الفاعلة في إدارة الدولة في هذه المرحلة الانتقالية، وتأكيداً على التزامنا بوحدة اليمن وسيادته واستقلاله وسلامته الإقليمية ووحدة أراضيه،
واستشعاراً للمسؤولية التاريخية والوطنية والإنسانية في الظروف الراهنة التي يمر بها الوطن في كافة أراضيه، ومواجهة للأزمات الإنسانية والسياسية التي نتجت من الحروب بين أبناء شعبنا".
ويضيف نص الإعلان "لتجاوز الصعوبات والعراقيل التي وضعت أمام تحقيق شعبنا لطموحاته في بناء يمن جديد، وتحقيقاً لمتطلبات شعبنا في المحافظة على النسيج الاجتماعي ووقف نزيف الدماء، وتضميداً للجراح، وتجسيداً لأهداف ثورتي سبتمبر وأكتوبر (تشرين الأول) المجيدتين، وللمحافظة على وحدة شعبنا في دولة مدنية تحقق الشراكة الواسعة والتوزيع العادل للثروات، وتحمي الجميع، وتحقيقاً لجوهر مخرجات الحوار الوطني الشامل، وحرصاً منا على المحافظة على أواصر الأخوة بين كافة أبناء شعبنا،
وانطلاقاً من المبادئ التي يؤمن بها شعبنا وضرورة تحقيق تطلعاته في سلام شامل ودائم، وحفاظاً منا على أمن المواطنين كافة واستقرار أمن الوطن وسلامة أراضيه، واستكمالاً لمهام المرحلة الانتقالية وتنفيذاً لتوافقات شعبنا الكريم؛ أصدرنا إعلان نقل السلطة".
سامي الكاف
صحافي وكاتب يمني