
على أبواب المعركة الكبرى
ظلّت قضية فلسطين تنسج فصول أحداثها المريرة والممزوجة بكلّ مشاعر الانكسار والتحفّز والاستكانة والتوثّب...، وذلك طوال أكثر من سبعين عاماً. وفي كلِّ فصل كانت تلوح مُتغيّرات جديدة على الساحتين العربية والدولية، لكن العرب لم يكونوا يحسنون اللعب بأوراق الضغط التي يمتلكونها لصالح قضيتهم المركزية، كما ينعتونها في تصريحاتهم الرسمية وقممهم المُتوالية.
والحقيقة أنهم لا يزالون خائبين في استغلال ما يمتلكونه من أوراق ضغط كي يجعلوا الكفة تميل لصالحهم في هذا الصراع الطويل، ومَنْ يقرأ قصّة هذا الصراع يُدرك السبب الأكبر في ذلك؛ أنَّ العرب ليسوا على قلب رجل واحد، ليس في هذه القضية فحسب، بل وفي غيرها من القضايا المصيرية؛ فهم كالغنم التي تُركت بلا راعٍ إلى أن بات الذئب يأكل منها القاصية!
قلوبهم شتى، ومصالحهم الفردية الأنانية تسبق مصلحة الجميع، كما نلاحظ أنَّ كلَّ واحدة من هذه الدول تتوجّس خيفة من أختها التي تمسّها في الحدود الجغرافية المُصطنعة، والتي زاد عليها العرب حدوداً ومتاريسَ من تلقاء أنفسهم حبّاً في العزلة، وكأنّهم يصنعون "غيتو" يتخندقون فيه، في زمن الأحلاف العابرة للقارات!
لا غرابة في ذلك، فعرب اليوم لا يقرؤون تاريخهم جيّداً، بَل إنّهم لا يقرؤون متغيّرات الحاضر، ولو فعلوا ذلك لمَا آل حالهم إلى هذا الهوان، إذ باتت سماوات عواصمهم تحت تهديد مقاتلات دولة الاحتلال الصهيوني، تُعربد فيها كما يحلو لها.
فمن دمشق إلى صنعاء، مروراً ببيروت وأخيراً الدوحة، فوق هذه العواصم تبخترت مقاتلات الاحتلال، والقائمة ستتسع ربما في قابل الأيّام لتشمل عواصم عربية جديدة. فهل أدرك العرب، بعد العدوان الإسرائيلي على الدوحة أخيراً، أنّهم في مرمى القنّاص جميعاً؟
هل أدركوا أنَّ الموضوع يفوق معركة طوفان الأقصى وتهجير أهل غزّة، فضلاً عن تجريف فلسطين كلّها والتوسّع لصالح دولة الحلم التوراتي المزعوم الذي يصرّح به وزراء حكومة الاحتلال المتطرفون؟
إنهم يتحدّثون بلا مواربة عن مشاريعهم الاستيطانية في منطقتنا العربية، والعرب لا يزالون في غفلتهم سادرين.
إنَّ أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023م وما بعده ليست عادية، وهذه المنازلة لا تشبه أيّ منازلة سابقة مع دولة الاحتلال، بل هي الفاتحة للمعركة الكبرى معه، إذا لم أقل الفاصلة بيننا وبينه.
لا أقول هذا من باب المبالغة، لا، لكن المتغيّرات الدولية تقول إنَّ العالم لم يعد ينظر إلى طبيعة هذا الصراع كما كان يفعل سابقاً؛ فالسردية الفلسطينية وصلت إلى العالم الغربي بعد أن حُجبت زمناً طويلاً،
فعرفت شعوب الغرب، بل والشرق أيضاً، حقيقة الصراع، بعيداً عن التدليسات الصهيونية التي مارستها آلة دولة الاحتلال الإعلامية الضخمة طوال العقود المنصرمة،
وكذاك انكسرت عصا معاداة السامية التي رفعتها دولة الاحتلال ضدّ كلِّ منْ ينتقد جرائم دولتهم المارقة من كلِّ الأعراف الإنسانية والدولية، وشاهد الحال في جامعة كولومبيا، على سبيل المثال، أكبر دليل على ما أقول.
وعندما تُجرجر دولة الاحتلال إلى محكمة الجنايات الدولية، ويُتهم رئيس وزراء حكومتها وبعض وزرائها بتهم الإبادة الجماعية، أليس هذا من المتغيّرات الدولية؟
وعندما تُصوّت الجمعية العامة للأمم المتحدة، بالأغلبية، لصالح مشروع قرار يوصي مجلس الأمن الدولي بإعادة النظر بإيجابية في مسألة حصول فلسطين على العضوية الكاملة، أليس هذا من المتغيّرات الدولية؟
وعندما تُجرّم الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، ما خلا الولايات المتحدة الأميركية، أعمال دولة الاحتلال في قطاع غزّة، أليس هذا من المتغيّرات الدولية؟
وعندما يتفق الاتحاد الأوروبي برمته على الاعتراف بدولة فلسطين، أليس هذا من المتغيّرات الدولية؟
وعندما تطوف المظاهرات الماراثونية، قرابة العامين، أغلب شوارع العالم، بما فيها دول تدعم حكوماتها سياسات دولة الاحتلال، لصالح قضية فلسطين، أليس هذا من المتغيّرات الدولية؟
وعندما تتوالى سفن المبادرات الإنسانية من أجل كسر الحصار المفروض على أهل قطاع غزّة، وتأتي من هناك من دول الغرب، متحدية كلَّ الجبروت والصلف الصهيوني، أليس هذا من المتغيرات الدولية؟
والمفارقة أنّ الوحيدين الذين لم يدركوا هذه المتغيّرات هم الأقربون، كما هو مفترض، من قضية فلسطين، وأعني بهم العرب. إنهم لا يزالون على حالهم القديم بين الشجب والتنديد والاستنكار والدعوات لعقد القمم!
الصدام قادم لا محالة، ومَنْ يتخلّف عن الاستعداد له فسيكون الخاسر بلا شك، فلا يغترّ العرب بأيّة وعود من هنا وهناك، المعركة معركتهم شاؤوا أم أبوا، وإنَّ غداً لناظره قريب.
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس يمني،