
شهر سبتمبر وضجيج الوطنيين المزيفين
ما إن يطل شهر سبتمبر حتى تغمر صفحات الكثير من اليمنيين الشعارات والمنشورات التي تمجّد ثورة سبتمبر والنظام الجمهوري ورموزه، وتلعن الحوثيين والإمامة، في مشهدٍ يسعى فيه البعض إلى تقديم أنفسهم كوطنيين مخلصين.
غير أن هذه "الوطنية" في حقيقتها ليست سوى وطنية زائفة لدى كثيرين ممن يتواطؤون مع مشاريع تمزيق الدولة وانتهاك سيادتها، مقابل فتات من المال يتلقونه من القوى الخارجية التي تدير تلك المشاريع وتغذيها.
شتم الحوثية والإمامة لا يمنح أحدًا صكّ الوطنية. فصعود الحوثية وبقاؤها هما نتاج مشاريع التمزيق والتدخل الخارجي. الرئيس عبد ربه منصور هادي، الذي هو بحق "الخائن الأكبر"، سلّم مفاتيح صنعاء للحوثيين، لأن دوره كان جزءًا من مشروع تفتيت اليمن تحت مسمى الأقاليم.
كما أن تسليم صنعاء لم يكن فعلًا عفويًا بل استند إلى خطط وتوجهات شاركت فيها قوى سياسية عدة، وعلى رأسها الحزب الاشتراكي، الذي عمل منذ زمن مبكر—ومنذ ما بعد الوحدة—على تفكيك الجمهورية اليمنية.
وللعلم، فإن هذا الحزب والكيانات الناتجة عن الحرب مثل المجلس الانتقالي، إلى جانب الأطراف الخارجية التي تدعمهم وتوجّههم، هم عمليًا حلفاء موضوعيون للحوثيين.
فبقاء الحوثي مسيطرًا على أجزاء مهمة من اليمن يخدم مشاريع التفكيك ويوفر لها ذرائع ومبررات للاستمرار والنمو.
لهذا بذلت هذه الأطراف مجتمعة جهودها لمنع نشوء قوة وطنية قادرة على القضاء على الحوثي؛ وبدلًا من ذلك جرى تكوين إقطاعيات عسكرية وسياسية لتقسيم البلاد. فوجود الحوثي منح قوى التمزيق غطاءً وشرعية زائفة أمام اليمنيين والعالم.
ومن يريد حقًا القضاء على الحوثية عليه أولًا سحق مشاريع التمزيق عبر إقامة سلطة يمنية حقيقية في أي جزء من اليمن، تستند إلى مشروع وطني واضح يقوم على وحدة الدولة وسلامة أراضيها وسيادتها واستقلالها.
فسلطة بهذه المواصفات ستكون قادرة على هزيمة الحوثيين بسرعة وبتكاليف أقل، ودون الاعتماد على متحكم خارجي.
جزء من الجمهوريين الأقحاح اليوم ممن يكثرون من رفع العلم وترديد النشيد الوطني، هم من أعضاء حزب الإصلاح. وهذا الحزب، منذ نشأته كتنظيم الإخوان المسلمين،
كان الكثير من قادته يتعاملون مع الجمهورية ورموزها مثل العلم والنشيد الوطني بوصفها "أوثانًا" يُحرّم تمجيدها.
من المفارقات أن بعض الذين يقدسون فكرة النظام الجمهوري في اليمن يعيشون في دول ملكية، ويعمل بعضهم كمرتزقة بأجور زهيدة في خدمة أنظمتها، ويسبّحون بحمدها ويمجّدونها، بل ويعتبرونها نماذج ناجحة للحكم.
وهنا يبرز التناقض الواضح: كيف يمكن لمن يمجد النظام الجمهوري ويقدسه في اليمن أن يمتدح النظام الملكي في غير اليمن؟
الحقيقة التي لا يستطيع أحد أن ينكرها هي: اليمن يمكن أن يكون دولة طبيعية تحت أي نظام حكم: ملكي، جمهوري، أو حتى إمامي.
أما إذا كان غير مستقل وفاقدا للسيادة، وممزقًا إلى إقطاعيات عسكرية/سياسية متناحرة تُدار من الخارج، فإن من المستحيل أن يكون دولة بأي حال من الأحوال.
لأن وحدة الدولة واستقلاليتها وسيادتها هي العناصر الأساسية لقيام أي دولة من عدمها؛ فيما طبيعة النظام السياسي أمرا ثانويا.
ثورة سبتمبر لم تكن حركة سياسية ناضجة؛ إذ افتقرت إلى عقيدة سياسية واضحة، وقيادة حقيقية، وجسم سياسي يعبر عنها ويدير مسارها.
كان القاسم المشترك بين من قادوا الثورة أو أيّدوها هدفًا ضيقًا وهزيلًا، يتمثل في إسقاط حكم أسرة حميد الدين ومنعها من العودة إلى السلطة.
والمفارقة الحزينة أن هذا الهدف يشاركه الحوثيون اليوم، فهم أيضًا يرفضون عودة بيت حميد الدين إلى الحكم، لا حبًّا في النظام الجمهوري، بل لأنهم يريدون أن يستاثروا بالحكم لأنفسهم.
ونظرًا لهزالة هذا الهدف وضعف الأساس الفكري والسياسي للثورة، لم تترسخ الجمهورية كنظام حكم راسخ يستمد شرعيته من تفويض شعبي حقيقي، كما تتطلب النظم الجمهورية. وبدلًا من ذلك، تحوّل النظام الجمهوري الهشّ بسهولة إلى نظام ملكي متخفٍّ بعباءة جمهورية،
كما حدث في عهد علي عبدالله صالح، الذي حكم اليمن فعليًا كملك غير متوج. فقد كانت ممارساته ممارسات الملوك، وأسرته وعشيرته تصرفوا كأنهم أسرة حاكمة تسيطر على الدولة. فلا وجود لنظام جمهوري يبقى فيه الرئيس 33 عاما حاكما ابديا،
ويخطط لتوريث الحكم لأبنائه، ولا لنظام جمهوري تسيطر فيه أسرة الحاكم على مؤسسات الدولة، خصوصًا الأجهزة الأمنية والعسكرية، كما كان الحال في عهد صالح.
الأمر الأسوأ من ذلك أن نظام صالح كان ملكيًا مشوّهًا؛ فهو لم يحصل على شرعية كحال الأنظمة الملكية، وهي الشرعية التي تحقق استقرار سياسي نسبي، يمكنها من عمل تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية، ولو بالحد الأدنى، كما عملت الملكيات في المنطقة.
والمثير للسخرية اليوم أن بعض الجمهوريين الذين يرفعون شعارات الثورة والجمهورية باتوا يتمنون عودة أسرة صالح إلى الحكم، وهو ما يعني عمليًا قبولهم بفكرة النظام الملكي الذي يزعمون رفضه ومقاومته.
لا هؤلاء الوطنيون المزيفون، ولا الأحزاب التي ينتمون إليها، قدّموا في الماضي أو الحاضر سردية وطنية متماسكة تقوم على استقلال الدولة ووحدتها وسيادتها وسلامة أراضيها.
والمفارقة أن الحوثيين، رغم خطاياهم، يبدون أكثر انسجامًا في خطابهم مع هذه القضايا، فهم يرفعون شعار الوحدة والسيادة، في حين أن خصومهم يتماهَون عمليًا مع مشاريع التمزيق، ويظهرون تبعية مهينة للخارج.
شهر سبتمبر وضجيج الوطنيين المزيفين(٢)
ان الوطنية لا تُقاس باختلاق الأساطير حول ثورة سبتمبر أو بشيطنة خصومها؛ فمن قام بها وايدها لم يكونوا ملائكة، كما أن معارضيها لم يكونوا شياطين. فالغالبية العظمى من الطرفين تحركوا بدوافع ذاتية ومصالح شخصية،
وهو أمر طبيعي في كل المجتمعات وعبر مختلف مراحل التاريخ.
والدليل على ذلك أن كثيرًا من الشخصيات والقوى انتقلت بين المعسكرين أكثر من مرة: فمن الملكية إلى الجمهورية، والعكس ومن الولاء لمصر إلى الولاء للسعودية، ومن الوحدة إلى الانفصال، تبعًا لما تقتضيه مصالحها.
واليوم يتكرر المشهد مع الحوثيين، حيث ينتقل بعض الأفراد والقوى من تأييدهم إلى معارضتهم، وربما يعودون لدعمهم غدًا إذا كانت مصلحتهم تقتضي ذلك.
لذلك فإن الخطاب الذي يصنّف الفاعلين السياسيين بين "ملائكة" و"شياطين" ليس سوى خطاب خشبي زائف، يهدف إلى تضليل الناس وغسل أدمغتهم.
فالسياسة، عبر التاريخ، قائمة بالأساس على المصالح الذاتية، التي قد تتقاطع أحيانًا مع ما يراه البعض مصلحة عامة، وقد تتعارض معها، لكنها تظل المحرّك الرئيسي لمعظم المواقف السياسية، باستثناءات نادرة.
قياس تخلّف اليمن في عهد الإمامة بالواقع الحالي مغالطة بيّنة؛ فاليمن آنذاك، ورغم تخلّفه، لم يكن أسوأ حالًا من جيرانه أو من الدول المشابهة له في ذلك الوقت.
أما اليوم، وحتى قبل الانهيار الكامل للدولة، فقد أصبح اليمن أكثر تخلّفًا بكثير مقارنةً بهذه الدول، ما يعني أن الفجوة بينه وبين محيطه والعالم اتسعت في العهد الجمهوري بدل أن تضيق.
وهذا التخلف لا يقتصر على ضعف البنية التحتية أو غياب التنمية المادية، بل يمتد إلى الوعي الجمعي، وخاصة الذهنية الوطنية.
ومن أبرز مظاهر ذلك أن كثيرًا من مثقفي اليمن وسياسييه يروجون بكل وقاحة لتمزيق البلاد، ويتفاخرون علنًا بارتزاقهم وارتهانهم للأجنبي، في مشهد يعكس انعدام تام للإحساس بالوطنية.
فالمقياس الحقيقي للوطنية ليس في ترديد الشعارات أو تمجيد الثورات، بل في الحفاظ على وحدة الدولة، وصون سيادتها، وضمان استقلال قرارها.
ومن المفارقات المؤلمة أن ثورة سبتمبر، فتحت الباب واسعًا أمام التدخلات الخارجية، وأضعفت سيادة اليمن تدريجيًا، حتى أوصلته إلى هذه الحالة المزرية من الارتهان والهيمنة الأجنبية المذلّة.
فمنذ تلك الثورة، لم يعد اليمن دولة مستقلة بحق كما كان – ولو نسبيًا – في عهد النظام الملكي، وهذه حقيقة موجعة يرفض كثير من الوطنيين المزيّفين الاعتراف بها، لأنها تكشف زيفهم وضجيج شعاراتهم الفارغة.
إن هزيمة الحوثيين، أو غيرهم، لن تتحقق عبر الأساطير والخرافات. فتصوير ما قبل الثورة كظلام دامس، وما بعدها كجنة، ليس إلا وهمًا وكذبًا صريحًا.
ما نحتاجه حقًا هو فكر عقلاني، يقوم على معرفة دقيقة وتحليل رصين، لمواجهة حملات التضليل التي يمارسها الحوثيون وغيرهم من القوى الساعية للهيمنة.
فالخرافة الحوثية لا تختلف، في جوهرها، عن الخرافات التي تُسرد حول ثورة سبتمبر؛ فكلاهما يهدف إلى تضليل الناس، وإبقاء المجتمع أسير الأوهام والأساطير، بدلًا من دفعه نحو وعي ناضج يمكّنه من بناء دولة حقيقية، تقوم على أسس صلبة من السيادة والشرعية والعقلانية.
الوطنية الحقيقية لا تقاس برفع الأعلام أو ترديد الأناشيد الوطنية، بل تُقاس برفض أي مشروع يسعى لتفكيك الدولة أو إخضاعها للأجنبي.
فالدولة هي الكيان المقدس الذي يحفظ كرامة المواطنين ويمنحهم هوية وسيادة، وهذه الدولة قد تكون ملكية أو جمهورية أو غير ذلك، لكن لا معنى للدولة إذا كانت ممزقة، فاقدة للسيادة، خاضعة لإدارة الأجانب.
عبدالناصر المودع