"أجواء مُباحة" لأحمد السلامي: قبل الانتفاضة اليمنية بقليل
خلال السنوات التي شهدت انتفاضات شعبية ضدّ الأنظمة الحاكمة في عددٍ من البلدان العربية، ساد الانفعال والاستسهال والمباشَرة الكتابة الروائية العربية؛ حيث راحت تتردّد فيها أصداء الهتافات المنبعثة من ساحات التظاهر، ودويّ القذائف المنفجرة في ميادين المعارك، واصطفّت على صفحاتها الكلمات الجاهزة والأحداث التي يمكن سماعها وقراءتها على مدار الساعة في أخبار الفضائيات والجرائد.
هكذا، يصبح صدور رواية تتناول الفترة السابقة لسنة 2011، وتساعد القرّاء العرب في غير بلد مؤلّفها على فهم واقع المجتمع الذي تجري فيه الأحداث الممهّدة للحراكات الشعبية، أمراً لافتاً.
وهذا شأن "أجواء مُباحة"، رواية الكاتب والشاعر اليمني أحمد السلامي، الصادرة حديثاً عن "دار الآداب" في بيروت.
كما يدلّ عنوانها، يشكّل الجوّ النقطة الأُولى التي تُطلق الأحداث على أرض الواقع. إنّه التفوّق التكنولوجي في الأعلى، يقابله العوز والتخلُّف والتجهيل في الأسفل، ومع ذلك ليس هناك حسمٌ في هذه الحرب المتعالية وغير المتكافئة.
نحن في عام 2007، حيث تستبيح الطائرات الأميركية من دون طيّار سماء البلد ذي التضاريس الصعبة، باحثةً فيه عن أهدافها من أعضاء التنظيمات المصنّفة "إرهابيةً" بموجب القوانين الأميركية، مستهدفةً إياهم، من دون اهتمام بـ"الخسائر الجانبية" في صفوف المدنيّين، كما هي العادة.
بهذه الطريقة يفقد عامر مناري أخته هدية وبناتها الصغيرات الثلاث، فيما ينجو صهره المستهدَف بالغارة التي دمّرت بيتهم في قرية "صدر الجبل"، فيفرّ عائداً للالتحاق بالمنطقة التي يسيطر عليها التنظيم الذي ينشط في صفوفه.
تفتح هذه الخسارة الثقيلة نوافذ الألم والذكريات في صدر الشاب الأعزب، الذي يستفيد من عمله الصحافي لتوجيه جهده إلى فضح الممارسات الإجرامية الأميركية، بالتزامن مع إعادة إعمار بيت عائلته الذي دمّره القصف في قريتهم الجبلية.
يعمل عامر على كشف المتعاونين المحلّيين مع كلّ من الأميركيّين والتنظيمات المسلّحة، وهما الطرفان اللذان يشكّلان وجهَي عملة القتل والإرهاب، سواء كانوا في الحكومة نفسها التي تحصل على المال والأسلحة من الأطراف الخارجية، قبل أن تسرق الأوّل وتبيع الثانية لمن يُفترَض أن تحاربهم بها، أو بين المدنيّين ومنهم أصدقاء له وأفراد من عائلته، حيث يمكن أن نجد في حلقة الأصدقاء الواحدة، أو ضمن أفراد العائلة الواحدة، متعاوناً مع الأميركيين وعضواً في تنظيم "إرهابي".
وهذا الانقسام، الذي يمكن اعتباره مقدّمة للاحتراب الأهلي الذي بدأ منذ 2011 في البلد الذي انقسم لسنوات بين شطر شمالي وآخر جنوبي، يردّه الكاتب إلى الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تدفع صغار السن للالتحاق بالتنظيمات المقاتلة أو الأجهزة الأمنية للسلطة للتعاون مع الأميركيّين، من خلال وضع شرائح التتبّع في ملابس المستهدفين وأغراضهم.
نشاط عامر مناري الاستقصائي يُدخله السجن أكثر من مرّة، كما يمكن أن نتوقّع من أيّ سُلطة قمعية.
لكنّ الرواية، من خلال هذه المنعطفات، تسلك طرقاً ممهّدة ألفناها في الرواية العربية؛ إذ تبتعد عن الهامش الذي يُشكّل الفضاء الطبيعي لأفراد هامشيّين، وعن الخصوصية التي يتمتّع بها الريف الجبلي اليمني مثلاً، بحسب ما قرأنا في بداية الرواية، حيث القرى ذات الاثني عشر بيتاً فقط، وبيوتها العالية ذات الطوابق السبعة،
بالإضافة إلى خصوصية بعض الشوارع الخلفية والأحياء في صنعاء، كالعطش إلى المغامرات الجنسية لدى عدد من زبونات سائق التاكسي نشوان، ابن عاقل "صدر الجبل"، أو سهولة الحصول على أنواعٍ مختلفة من الأسلحة، من ضمنها مدافع الهاون، في مقابل صعوبة الحصول على نصف زجاجة من المشروبات الكحولية، بما فيها الكحول منزلي الصنع، الذي قد يؤدّي شربه إلى أضرار تصل إلى حدّ التسمّم.
هناك شخصية يُساهم حضورها في تذليل المسافة بين الطائرة التي تجوب الأجواء وأهدافها السائرين على الأرض، تتمثّل في الباحث السويسري كلود، صديق عامر، الذي قدم إلى اليمن لمعاينة آثاره ودراسة الحضارات القديمة التي أقامت ممالكها على أرضه.
يقرّر كلود مساعدة صديقه من خلال إيصال قضية الأخت القتيلة وبناتها إلى المنظَّمات الحقوقية الدولية، حيث سيكون وقع صوته وفعالية جنسيته فيها أمضى ممّا لو فعل عامر الأمر ذاته بنفسه، على افتراض أنّ هذا الخاطر ورد إلى ذهنه في الأساس.
لا يترك الكاتب شخصيَّاته متعدّدة المشارب والخيارات معلّقة المصائر، بل يتابعها ويرصد مآلاتها. مصير المقاتلين معروف، فهم يعدّون أنفسهم للموت ويسعون إليه.
أمّا مصير أفراد السلطة والمتعاونين مع الأميركيين فمتشابه، ومستقبلهم لا يمكن أن يكون إلّا خارج البلاد بعد أن أضرّ عملهم بأهلها.
في مقابل اللفتة الإنسانية للسويسري، هناك التنكّر وقطع الصلة الذي يختاره خال عامر، العسكري المتقاعد.
سبق لهذا الرجل أن عمل دبلوماسياً وملحقاً عسكرياً في عدّة سفارات يمنية، وأشرف بحُكم موقعه على صفقات شراء أسلحة أصبح عالماً بخفاياها، لكنّه يظلّ يؤجّل فضحه لها.
هو يمثّل جيلاً كاملاً من العسكريّين الفاسدين الذين باعوا كلّ ما يمكن بيعه من أصول البلاد المادية والمعنوية، وفضحه لهذا الجيل ليس إلّا فضحاً لنفسه.
أمّا أحد المتعاونين، فيختار إحراق نفسه في مقرّ إقامته بالولايات المتّحدة، التي طلب السفر إليها بموجب قانون حماية المتعاونين، بسبب تأخّر إلحاق عائلته به، ما أتاح لضحاياه أن ينتقموا منه بقتل ابنه.
يُذكر أنّ هذه هي رواية أحمد السلامي الأُولى، والتي تأتي بعد خمس مجموعات شعرية؛ هي: "حياة بلا باب" (2002)، و"ارتباك الغريب" (2004)، و"دون أن ينتبه لذلك أحد" (2006)، و"قدّيس خارج اللوحة" (2023)، و"كلّ الجهات عدن" (2023)، وكتاب نقدي بعنوان "الكتابة الجديدة.. هوامش على المشهد الإبداعي التسعيني في اليمن" (2003).
* ساري موسى، كاتب من سورية