استقرار سورية هدف إقليمي دولي
يعكس الاهتمام الدولي والعربي بالتحوّل الجديد في سورية رغبة في عبور هذا البلد نحو الاستقرار، نظراً إلى الوضع الداخلي الخاص المنهك بسبب أكثر من ستة عقود من حكم الحزب الواحد، وعائلة الأسد، والجماعات المافياوية التي تشكلت في ظلها، وكانت النتيجة أنها دمرت الاقتصاد وبنت السجون وحفرت المقابر الجماعية، وحين وصلت قوات إدارة العمليات العسكرية فرّت مخلّفة وراءها تركة ثقيلة جداً.
وتشكو سورية من هشاشة على المستويات كافة، وفي المقدمة يأتي الاقتصاد الذي يعاني من شلل تام بسبب الوضع الاستثنائي الناجم عن الحرب والعقوبات الدولية، ودمار الصناعة وتراجع الزراعة وسيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) على آبار النفط والغاز.
وهذا انعكس سلباً على حياة الناس والقدرة الشرائية، حيث بات أكثر من 80% من السوريين، في ظل النظام، تحت خط الفقر، وعلى مدى أعوام الأزمة تراجعت قيمة الليرة السورية، ولم تعد المرتبات تسد الحاجة، ولا تكفي لتغطية مصروف أسبوع واحد.
وبسبب الانهيار الاقتصادي تردت الخدمات ولم تعد متاحة، وخاصة الكهرباء ومياه الشرب والخبز والمواد الأولية والمحروقات، ولذلك وجدت الإدارة الجديدة نفسها في وضع لا تحسد عليه، وقبل أن تضع أقدامها في مقرات الدولة ارتفعت الأصوات المطالبة بحلول عاجلة للأزمات، التي تفجرت دفعة واحدة.
وعلى الرغم من أنها تحاول تأمين حلول إسعافية، فإن طاقتها تبدو محدودة، ولن تتمكن قبل عام من حلحلة الوضع ووضعه على السكة، وهذا ما صرح به رئيس الإدارة الجديدة أحمد الشرع في حديث صحافي أخيراً.
ولكن الأمر لا يقف عند هذه الإدارة، التي وجدت سورية بلا مدخرات فعلية، ولذلك يعتمد النهوض بالبلد على تقديم مساعدات دولية وعربية، ورفع للعقوبات التي كانت مفروضة على النظام السابق.
سورية بلد مركزي في الشرق الأوسط، يعيش في جوار ذي خصوصيات كثيرة، من جهة إسرائيل، التي تمارس سياسة التمدد في الضفة الغربية وغزة ولبنان والجولان والقنيطرة وأراضٍ سورية أخرى، وهي تعمل على استغلال اللحظة الراهنة من أجل تحجيم سورية إلى زمن طويل،
وتحاول تطبيق المنهج الذي استخدمته مع الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد، الذي توصلت معه إلى تفاهمات طويلة الأمد، تقوم على عدم تهديد حكمه مقابل التسليم باحتلال الجولان وإنهاء حالة الحرب.
وقد رعى هذا الاتفاق وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق هنري كيسنجر، وتم تقنينه من خلال اتفاقية فصل القوات عام 1974، التي ألغتها إسرائيل بعد دخول قوات عملية ردع العدوان إلى العاصمة السورية وهروب بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، كي تبتز الحكم الجديد في دمشق من أجل الحصول على تنازلات وتجبره على قبول تفاهمات جديدة قد تتجاوز سقف تلك التي أملتها على عائلة الأسد.
إسرائيل كانت تفضل بقاء سورية مجزأة
وهناك نقطة مهمة جداً تستدعي الإشارة إليها وهي أن إسرائيل كانت تفضل بقاء سورية مجزأة تحكمها قوى الأمر الواقع، وأن يستمر الأسد في حكم دمشق ضعيفاً معزولاً.
وتفيد المؤشرات كافة بأنها فوجئت بسقوطه، وهذا ما يفسر رد فعلها بتدمير أسلحة الجيش السوري الاستراتيجية كي لا تنتقل إلى أيدي العهد الجديد الذي لا تخفي قلقها منه، وتتذرع بأنها لا يمكن أن تأمن جانبه بسبب خلفيته الدينية وماضي قيادته المصنفة على لائحة الإرهاب.
ولا يبدو أنها ستغير مقاربتها هذه، رغم أن الولايات المتحدة تواصلت مع الشرع، وعبرت عن انفتاحها عليه، وألغت الجائزة المالية التي كانت قد رصدتها للإدلاء بمعلومات عنه.
وقدم الوفد الأميركي الذي زار دمشق برئاسة مساعدة وزير الخارجية باربرا ليف، وعوداً مشروطة باحترام حقوق الأقليات والمرأة وعدم عودة إيران إلى سورية، واتخاذ خطوات تشكل تهديداً لأمن إسرائيل.
تدرك واشنطن أن الإدارة السورية الجديدة لن تسير في اتجاه يعاكس المزاج الدولي، الذي طوى صفحة الأسد، خاصة في الوقت الذي يصعب فيه الدفاع عن إرثه الثقيل في القمع والقتل والنهب وتدمير العمران وتهجير ملايين السوريين.
ويبدو أن القراءة الأميركية للحكم السوري الجديد مستقرة من الناحية المبدئية على أنه ليس في وارد استعادة علاقات دبلوماسية طبيعية مع إيران خلال المدى المنظور، أو التفكير بخطوات تهدد أمن اسرائيل، لأنه غير قادر على ذلك من الناحية العملية، ولا يمتلك الإمكانات اللازمة لأي عمل عسكري خارج حدوده.
ولذلك ليس من المستبعد أن تشجعه على تركيز نفسه من خلال خطوات رمزية تتمثل في رفع بعض العقوبات الاقتصادية وتقديم المساعدات.
وهناك رأيان حول ذلك، أحدهما يدعو لرفع سريع، وآخر لتركها للإدارة القادمة التي ستدخل البيت الأبيض في 20 من الشهر الحالي.
ترى أوساط إقليمية ودولية أنه ستكون هناك سلسلة من خطوات الانفتاح الأميركية نحو دمشق، بينما تتباين المواقف الأوروبية بين المصالح المشتركة والعمل على إعادة اللاجئين السوريين من أكثر من بلد أوروبي.
وحتى تتم العملية بصورة طوعية، لا بد من تأمين قدر من الاستقرار الأمني والاقتصادي، وتطمين سوريي الخارج بأن الوضع لن ينتكس، وهذا يتطلب تقديم مساعدات مالية تساهم في إعادة الإعمار بسرعة، وخاصة للبنية التحتية المدمرة بنسبة تتجاوز 80% في بعض المحافظات.
ورغم أن تركيا بدأت خطوات من أجل تزويد حلب ومن ثم دمشق بالكهرباء، إلا أن أغلبية البيوت في محافظات حلب والرقة ودير الزور وأرياف إدلب وحمص ودمشق وحماة لم تعد صالحة للسكن، وهي تتطلب إعادة إعمار من جديد، ولا يمكن فعل ذلك من دون مشاركة أميركية أوروبية عربية توفر المال والخبرات والأدوات.
ومهما بلغت الدولة من قدرة مالية وتقنية، فإنها لا تستطيع النهوض بالمهمة وحدها، وتحتاج العملية إلى جهد دولي وإقليمي جبار وتمويل يصل في حده الأدنى إلى 150 مليار دولار.
دول جوار سورية تنشد الاستقرار
الاستقرار تنشده دول جوار سورية بإلحاح، وذلك لعدة أسباب، منها عودة المهجرين، الأمن الحدودي، وإغلاق ملف تهريب المخدرات نهائياً، وهذا ينطبق أيضاً على الدول البعيدة نسبياً، التي أوفدت مندوبين منها إلى دمشق مثل البحرين وليبيا.
وبالنسبة إلى تركيا، وهي أكثر دولة مستقبلة للمهجرين السوريين، فإن الهم الأكبر هو عودة أكبر قدر من هؤلاء، ومن الملاحظ في الآونة الأخيرة أن عدد العائدين لا يتجاوز بضعة آلاف، وحتى الآن تبدو الأرقام متواضعة جداً قياساً إلى العدد الذي يتجاوز 3 ملايين، وهذا ما يفسر استعجال تركيا لمساعدة سورية على تأهيل البنية التحتية، وخاصة قطاع الكهرباء الذي تعطيه الأولوية.
وهناك مؤشر مهم وهو أن أسهم شركات الإسمنت التركية ارتفعت في بورصة إسطنبول بما يتجاوز 10% من قيمتها، بمجرد أن بدأت استعدادات إعادة الإعمار في المناطق الحدودية في ريفي حلب وإدلب، حيث إن غالبية المدن مدمرة جراء حرب عام 2019 في سراقب وخان شيخون ومعرة النعمان.
هواجس كل من الأردن والسعودية تلتقي عند تأمين سورية من الخطر الإيراني. ورغم أن البلدين لم يصرحا بذلك، فإن طرد إيران من سورية يضع حداً للمعاناة الطويلة من التدخلات الإيرانية والمشاريع المزعزعة لأمن المنطقة، وفي مصلحة كل منهما مساعدة الإدارة الجديدة على تثبيت أقدامها كي تتمكن من اجتثاث جذور النفوذ الإيراني من البلد.
وهناك قناعة لمستها الإدارة الجديدة بإحساس العرب بالمسؤولية عن تحصين سورية من محاولات التخريب التي لوح بها عدة مسؤولين إيرانيين رفيعي المستوى.
وتعكس تصريحات المسؤولين الإيرانيين المستمرة حول سورية رفضاً للوضع الراهن والإدارة الجديدة في دمشق، ابتداء من المرشد الإيراني علي خامنئي، ووزير الخارجية عباس عراقجي، والمتحدثة باسم الحكومة فاطمة مهاجراني.
وفي أحدث تصريح، قال محسن رضائي، عضو مجلس تشخيص مصلحة النظام والقائد السابق للحرس الثوري الإيراني خلال فترة الحرب العراقية الإيرانية: "خلال أقل من عام، سيبعثون المقاومة في سورية بشكل جديد، وسيُحبطون المخططات الخبيثة والمخادعة التي تقودها الولايات المتحدة، والنظام الصهيوني، والدول التي تم استغلالها في المنطقة".
الموقف العراقي الذي صدر عن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني يبدو مدروساً جداً، ويحاول الموازنة بين الموقفين الأميركي والإيراني.
وعبرت بغداد عن مخاوف على لسان حميد الشطري، رئيس جهاز المخابرات العراقية، الذي تم تعيينه قبل أسبوع من زيارة دمشق في خطوة لافتة على صلة مباشرة بالتطورات في سورية، خصوصاً أنه مقرب من الحرس الثوري الإيراني.
وأبدى الشطري مخاوف من أن يؤثر الوضع الجديد في سورية على العراق، تحت ذريعة وجود جيوب لتنظيم داعش في سورية، وقد بادله الشرع المخاوف نفسها من نفوذ إيران في العراق، وأن العلاقة بين البلدين يجب أن تكون ندية والتعامل بالمثل، وأن يكون الحرص على أمن البلدين مصلحة متبادلة ومشتركة.
هناك تطوران مهمان، الأول هو البيان الذي صدر عن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، والإعلان عن زيارة وفد من الجامعة، وهو ما أعلن عنه الأمين العام المساعد السفير حسام زكي، الذي أكد أن الدول العربيّة تسعى لإعادة الملف السوري إلى الواجهة من جديد، بعدما أصبح ملفاً ثانويّاً وروتينيّاً بالنسبة للمجتمع الدولي.
التطور الثاني هو زيارة الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي جاسم بن محمد البديوي برفقة وزير خارجية الكويت عبد الله اليحيا إلى دمشق في 30 من الشهر الماضي ولقاء الشرع، ونقل رسالتين باسم دول المجلس، الأولى تضامنية، والثانية أكدت على أن استقرار سورية ركيزة أساسية لاستقرار المنطقة.
بشير البكر
بشير البكر كاتب وشاعر سوري