شبوة "بلد السدر والنحل" تمنح اقتصاد اليمن جرعة شفاء
حظيت مديرية جردان بمحافظة شبوة جنوب اليمن باختيار السلطات المحلية لها، لإقامة مشروع محمية أشجار السدر التي تعد الغذاء الأساس للنحل، وإعادة تأهيل سد الدغثور الذي يعد أكبر وأهم السدود المائية في المحافظة النفطية.
وجاء قرار اختيار جردان، بعد اجتماع عقده حاكم شبوة، عوض الوزير العولقي، وعدد من مستشاريه مع قيادات محلية من مديرية جردان، في بادرة من أجل إعادة الاعتبار لتاريخ المديرية الحضاري الزاهر، وأهميتها الاقتصادية والسياحية.
وبحسب الإعلام الحكومي، أكد العولقي حرص السلطة المحلية على الإكثار من إنتاج العسل في المديرية التي تُعتبر من المناطق الغنية بالموارد الطبيعية، موجهاً بإنشاء محمية تضم 10 آلاف شجرة سدر، وذلك تماشياً مع مخرجات مؤتمر المناخ الأخير الذي دعا إلى زراعة مليون شجرة متنوعة في جميع أنحاء اليمن.
ويعد جردان أحد أودية مشرق اليمن الخصبة التي تكثر فيها أشجار العلب (السدر) التي يتغذى النحل على ثمارها بصورة جيدة، فمع سقوط الأمطار بصورة مستمرة طوال العام وتوفر التربة الخصبة في الوادي، نمت أشجار بصورة وفيرة في الأودية إلى جانب السدر، حيث تتنوع الأشجار تنوعاً طبيعياً بين أشجار السدر أولاً، إضافة إلى أشجار صغيرة تظهر في مواسم الأمطار الوفيرة.
الاقتصاد اليمني
وبحسب أبحاث التعداد الزراعي المحلي، تُعد محافظة شبوة من المناطق الرئيسة المهمة في تربية النحل، وتمتاز بالعسل الشبواني وخصوصاً الجرداني منه، الذي يحظى بشهرة محلية وخارجية. وبلغ عدد المناحل في وادي جردان 4713 محلولاً، وهي المناحل التقليدية القديمة المتوارثة جيلاً بعد جيل، أي المناحل المستقرة في مكان واحد منذ مدة طويلة وغير قابلة للنقل،
بينما بلغ عدد المناحل الحديثة في المديرية 1345 محلولاً، ويصل إنتاج شبوة من العسل إلى حوالى 420 طناً سنوياً أي ما يعادل ربع إنتاج اليمن،
بينما أشارت إحصائية أخرى نفذها مشروع الدعم الهولندي في المحافظة أن المناحل في جردان تشكل 13 في المئة من إجمالي عدد المناحل في المحافظة التي تشكل 15 في المئة من مناحل اليمن.
وتحظى تربية النحل في وادي جردان بعناية فائقة، حيث تُربى في خلايا متنوعة أهمها خلايا أشجار العراب التي تنتشر بصورة كبيرة في كثير من مناطق وادي جردان، وخصوصاً منطقة الظاهرة أعلى الوادي،
حيث يبلغ طول الخلية حوالى 125سنتيمتراً، وتجوف من الداخل على شكل دائرة وتُغطى من الأمام والخلف، وتوضَع فتحة صغيرة لدخول النحل وخروجه، أما النوع الثاني من أنواع الخلايا فهو الخلايا الطينية (الأنابيب الفخارية).
عراقة وأصالة
وفقاً لأستاذ التاريخ المساعد بجامعة شبوة، محمد السدله، "اشتهر وادي جردان بصناعة العسل وإنتاجه منذ القدم، مستدلاً بالدراسات والأبحاث الأثرية في وادي يثوف من روافد وادي جردان الرئيسة على قدم وعراقة إنتاج العسل في هذا الوادي، وعُثر على أشكال غريبة على مرتفعات وجبال اعتُقد في البداية أنها عبارة عن رسوم صخرية،
لكن المؤرخ اليمني الراحل محمد عبدالقادر بافقيه أشار إلى أن هذه الأشكال الغريبة ما هي إلا عبارة عن خلايا نحل تبنى في الكهوف، وفجوات في الجبال يستحيل الوصول إليها إلا بالتدلي بواسطة الحبال، فهي بيوت للنحل، ووجدت خلايا النحل المعلقة كذلك في شُعب اللوق رؤوس وادي عرماء في منطقة (ديار يوس)".
ويعزو السدله في حديثه، صدارة وادي جردان ماضياً وحاضراً لإنتاج العسل، إلى وجود عدد من العوامل التي ساعدت على أن يكون الوادي من الأودية الشهيرة قديماً لصناعة العسل وإنتاجه، ومنها توفر الظروف الطبيعية المناسبة لزراعة أشجار السدر، وبخاصة غزارة المياه والمناخ الموائم والتربة الطينية الخصبة، فتركزت صناعة العسل في هذا الوادي وأودية اليمن الخصبة الأخرى لا سيما دوعن وبيحان ومأرب.
وتحدثت المصادر الكلاسيكية عن صناعة العسل في اليمن قديماً، ويذكر المؤرخ اليوناني الشهير "إسترابون" أن "اليمن بلاد خصبة بصفة عامة وتتميز بصناعة العسل"، ويضيف، "أما خصب البلاد عامة فهو حسن جداً، ومن محصولاتها المتعددة العسل وهو كثير فيها جداً".
غزارة المياه
ويسهب أستاذ التاريخ المساعد بالقول إن "وادي جردان من الأودية الغنية بالمياه التي كانت كمية الأمطار الساقطة عليها في التاريخ القديم كبيرة، إلى جانب أودية دهر وعرماء، مما سمح بتوفر غطاء نباتي متنوع وكبير، سواء النباتات الطبيعية التي تظهر في مواسم الأمطار أو الأشجار المعمرة الأخرى، والنباتات التي يزرعها الإنسان،
وغالباً تهطل الأمطار على المرتفعات من الوادي، وأحياناً لا يصل السيل إلى أسفل الوادي، فاحتمال حصول جفاف قائم في أسفل الوادي، وهذا لا يرتبط بالوادي كله، إذ إن المرتفعات والشعاب يكون حظها أوفر من المياه من أسفل الوادي، وتمتد من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، وعلى سطحها يقع خط تقسيم المياه، فتنحدر منها أودية متعددة بعضها يتجه نحو الجنوب باتجاه بحر العرب كوادي حجر ووادي عمقين، الذي تخالطه مجموعة من الروافد تنحدر من الهضبة كالحنكة والشعيب ورهوان وغر، ومنها يشكل وادي عمقين، وبعضه ما يتجه إلى الشمال ليصب في مفازة صيهد التي تمثل مشرق اليمن، مثل وادي دهر ووادي عرماء ووادي جردان،
وتشكل هذه الهضبة فاصلاً طبيعياً بين وادي جردان والأودية المجاورة لها شرقاً وجنوباً وشمالاً، وتشكلت هذه الأودية بفعل الانكسارات التي تعرضت لها هذه الهضبة، إذ تشكلت الشعاب والأودية بفواصل بين هذه المرتفعات.
كما أن الوادي يحتل موقعاً متوسطاً بالنسبة إلى صحراء رملة السبعتين التي فيها يصب الوادي وروافده التي تشكل حوضه الكبير في أطرافها الجنوبية الشرقية.
تاريخ مجيد
تاريخياً تمتع وادي جردان بأهمية اقتصادية وسياسية كبيرة في تاريخ اليمن القديم، وقد ذُكر الوادي في عدد من النقوش اليمنية القديمة، مما يدل على تلك الأهمية التي كان يحتلها، نظراً إلى ما يتمتع به من موقع إستراتيجي مهم، حيث يحتل موقعاً وسطياً بين ميناء مملكة حضرموت الرئيس (قنا) وعاصمتها شبوة، وتخترقه طرق رئيسة وفرعية أسهمت بصورة كبيرة في ازدهار التجارة في مملكة حضرموت واقتصاد اليمن القديم إجمالاً.
وكانت مملكة حضرموت التي يقع وادي جردان في نطاقها، من أهم المناطق التي تنتج عدداً من السلع التجارية، ولذلك أنشأَت عدداً من الموانئ على ساحل البحر العربي، كميناء قنا وميناء سمرهم، إذ كان ميناء قنا هو الميناء الرئيس لتجارة اللبان والمر والصبر الذي يصل إليه من مواقع إنتاجه، وتتجمع فيه محاصيل عدة مناطق مثل المناطق الشرقية من مملكة حضرموت، وبخاصة ظفار والمهرة ووادي حجر وجزيرة سقطرى والساحل الأفريقي وعبره يتم التصدير براً وبحراً عبر الطرق التجارية إلى مناطق مختلفة من العالم.
همزة الوصل
ويشدد أستاذ التاريخ المساعد على الأهمية الكبيرة للموقع الجغرافي والإستراتيجي القديم لليمن في قلب طريق التجارة العالمي، براً وبحراً، الذي كان له عظيم الأثر، وقلما توفر لغيره من البلدان، ومكّنه من السيطرة على أهم طرق التجارة العالمية بين الشرق والغرب، فكان اليمن بمكانة همزة الوصل في حركة التجارة العالمية بين الهند وجنوب شرقي آسيا وشرق أفريقيا من جهة، ودول حوض البحر الأبيض المتوسط وبلاد الشام من جهة ثانية، فضلاً عن أن اليمن كان في الوقت ذاته وبفضل خصوصيات تضاريسه مصدراً لأنواع من السلع التجارية، التي كان الإقبال والطلب عليها كبيراً وضرورياً في أسواق العالم القديم بسبب تعدد استخداماتها الدينية والدنيوية والطبية.
طرق التجارة
ويفصّل الأستاذ المساعد بجامعة شبوة، محمد السدله أن "جردان من الأودية التي تقع على الطريق التجاري الذي يربط العاصمة الحضرمية شبوة وميناء قنا على ساحل البحر العربي، إضافة إلى أن الموقع الإستراتيجي للوادي جعله يمثل موقعاً متوسطاً بين الميناء والعاصمة شبوة من جهة، والعواصم اليمنية حول مفازة صيهد مثل تمنع ومأرب من جهة أخرى، وعبر هذه الطرق البرية التي كانت تربط ميناء قنا بالعاصمة شبوة وتمنع وكذا بالمدن الداخلية في حضرموت، كانت تنقل القوافلُ البضائعَ كاللبان والمر والصبر،
وكذلك السلع المستوردة الأخرى، وعبرها كانت تتم عملية التبادل التجاري الداخلي، كما ارتبطت مملكة حضرموت التي يقع في إطارها السياسي والمكاني وادي جردان مع مناطق شبه الجزيرة العربية بطرق تجارية برية تنطلق من السواحل الجنوبية حتى سواحل البحر الأبيض المتوسط شمالاً، وعبرها كان يتم نقل المنتجات والسلع الحضرمية المهمة، إضافة إلى المنتجات والسلع القادمة إلى الموانئ الحضرمية من الأقطار والبلدان التي ترتبط معها بعلاقات تجارية كالهند والصين وشرق أفريقيا والخليج العربي".
ويضيف "يتفق الدارسون الذين تعرضوا للطرق التجارية في اليمن القديم على أنها تبدأ من ميناء قنا على البحر العربي، وتمر عبر عواصم دويلات اليمن القديم وأولها شبوة عاصمة مملكة حضرموت، وتمنع عاصمة دولة قتبان، ومأرب عاصمة دولة سبأ، وقرناو في الجوف عاصمة دولة معين، ومنها إلى نجران حيث يتفرع الطريق إلى اتجاهين،
الأول يتجه نحو الشرق باتجاه منطقة الخليج العربي ثم إلى جنوب بلاد الرافدين،
أما الثاني فيتجه من نجران شمالاً حتى ميناء غزة في فلسطين على ساحل البحر الأبيض المتوسط الذي كان مجمعاً للسلع العربية، وكان هناك عدد من العوامل والشروط التي تحدد مسار هذه الطرق التي تسلكها القوافل المحملة بالبضائع كاللبان والمر والصبر وغيرها، ومن هذه العوامل الابتعاد عن المناطق الجبلية والصخرية، والقرب من مناهل المياه من آبار وعيون، إضافة إلى الظروف المناخية وتوفر الحماية، وتجنب المنخفضات الساحلية".
نقوش ومواقع أثرية
وخلّفت مملكة حضرموت في وادي جردان عدداً من المواقع الأثرية الشهيرة التي لعبت دوراً كبيراً في حركة التجارة الداخلية والخارجية للمملكة منها مواقع هجر البريرة وهجر البنا وهجر دربس وغيرها.
وينوّه السدله بأن أول ذكر لجردان في النقوش اليمنية القديمة كان في نقش النصر الموسوم بـ(8RES 3945/) الذي دونه مكرب، ملك سبأ كرب آل وتر بن ذمار علي، المؤرخ بحوالى القرن السابع قبل الميلاد، وورد اسم جردان ضمن المناطق التي تعرضت للهجوم الذي شنه الملك السبئي على مملكة أوسان ضمن أودية ومناطق أخرى منها رخية
ودهر وعرماء وعبدان، بينما في القرون الميلادية أشارت النقوش اليزنية إلى وادي جردان باعتباره من المناطق التابعة لليزنيين، إذ أشار نقش عبدان الكبير، يعود تاريخه إلى عام 355، إلى جردان ضمن مناطق أخرى شملها توسع الأقوام اليزنية.