
المدن الذكية وأحلام الفلاسفة.. الوعي أم التنظيم الرقمي؟
في العمل الروائي "أطلانطس الجديدة"، صوّر فرانسيس بيكون رؤيةً لمستقبل الاكتشاف والمعرفة البشرية، مُعبّراً عن تطلعاته ومُثُله العليا للبشرية، حيث التنوير، والكرامة، والعدالة هي الصفات الشائعة لسكان جزيرة بنسالم الأسطورية.
في هذا العمل قدّم بيكون أفكاراً حول كيفية ارتباط التكنولوجيا بالمدينة، وترسّخت هذه الأفكار في تخيلات التطور الحضري اللاحقة.
ومع تطوّر التكنولوجيا الرقمية في خمسينيات القرن الماضي، بدأ تطوير المدن حول العالم يتخذ منحاً تكنولوجياً متزايداً، ليبتعد بذلك عن الفلسفات الكلاسيكية والمثالية التي لطالما ركزت بالأساس على الجانب الأخلاقي والقِيَمي في تصوّراتها لتطور المجتمعات والمدن، وليصبح التركيز أكثر فأكثر على الجانب التقني والأداتي.
وأثمرت الابتكارات الرقمية المتسارعة عبر العقود الماضية ظهور عدد من مشاريع المدن التي باتت تعرف بـ"الذكية"، فظهرت مثلاً في كوريا الجنوبية مدينة سونغدو الجديدة،
وفي الإمارات مدينة مصدر، وتطورت مدن أخرى مطبقةً مختلف معايير الذكاء الحضري وتطبيقاته، وفي طليعتها مدن شرق آسيوية كسنغافورة وتايبيه وشنغهاي. وفي العالم العربي حققت مدنٌ عدة تقدماً على مؤشر المدن الذكية،
فجاءت دبي، وأبوظبي، والرياض، والدوحة، في المراتب: الرابعة، والخامسة، والسابعة والعشرين، والثالثة والثلاثين، على التوالي.
وقدمت هذه النماذج، على ما بينها من تباينات، أمثلة وتطبيقات على تحقيق النمو الحضري المستدام القائم على أساس إدماج تطبيقات الذكاء الرقمي والاصطناعي،
التي تتمحور بالدرجة الأولى حول تحقيق معايير الرقابة الشاملة ومبادئها والضبط لجميع الخدمات والمشاكل الحضرية، بما في ذلك كل ما يتعلق بإدارة السير والنفايات وتوزيع المياه والكهرباء والطاقة وأعطالها، وصولاً إلى مستويات الإضاءة والضجيج.
إلا أن هذا النموذج الحضري الذكي سرعان ما بدأ يثير تساؤلات وتشككات واعتراضات قام جلّها على أساس القلق على التبعات بما يخص الأخلاق والقيم، والتحذير من مخاوف التأثير في قيم الديمقراطية والمشاركة في الحكم والمحافظة على صحة العلاقات الاجتماعية والإنسانية، مع تأكيد مخاوف الإنقاص من مساحات الخصوصية للسكان،
وكذلك من تزايد الشركات ورؤوس الأموال وتغوّلها وسيطرتها على البيانات والخدمات مقابل تضاؤل مساحة حرية الأفراد وتأثيرهم وفعاليّتهم.
ديستوبيا الذكاء الحضري
في دراسته "رأسمالية المراقبة الرقميّة والمدن: البيانات والديمقراطية والنشاط" (2024) يرى الباحث أشيش ماكانادار، أن التقارب المتزايد بين التحضر والتقنيات الرقمية يُعيد تشكيل حوكمة المدن جذرياً من خلال أنظمة قائمة على البيانات الضخمة (Big Data)،
وأن هذا التحول يخضع لسيطرة جهات "رأسمالية المراقبة" إلى حد كبير، ما يثير مخاوف عميقة بشأن القيم الديمقراطية وحقوق المواطنين.
ويشير ماكانادار إلى أنه في أعقاب جائحة "كوفيد-19"، أصبحت منصات الذكاء الاصطناعي، وتقنيات التعرف إلى الوجه والبصمات والهوية البيولوجية، سائدة ومعتمدة على نحو واسع، مدشّنةً بذلك عصر ما سمّاه "رأسمالية المراقبة"،
حيث أصبحت المدن مناجم بيانات إقطاعية تسيطر عليها مجموعة شركات من عمالقة التكنولوجيا، مثل غوغل وأمازون وتيك توك وفيسبوك و"أوبن أيه آي" وأمثالها.
وأصبحت البيانات الشخصية، بما في ذلك المواقع الجغرافية والرسائل وعمليات البحث، ملكية خاصة يجري استخراجها ومعالجتها وبيعها للتنبؤ السلوكي والتحكم الاجتماعي.
وما يزيد من المخاوف، أن هناك القليل من الشفافية في الأنظمة الرقميّة التي تحكم البيئات الحضرية. ويشير ماكانادار إلى أن تقنيات المدن الذكية، من المراقبة التنبؤية إلى تحسين حركة المرور، تعمل من خلال خوارزميات غامضة مصممة لتعظيم إيرادات الشركات،
وليس المنافع العامة. وبذلك يُستبدل إرث المدن، الذي راكمته النضالات المدنية خلال الحقبة الحديثة، من الديمقراطية والمشاركة في صنع السياسات إلى الاستبداد الرقمي المُصمم لتحقيق الربح.
كذلك تتناول الباحثة إلانا سوكول في أطروحتها للدكتوراة المعنونة بـ"استكشاف الوعد المثالي لالتزامات المدينة الذكية" (2024)، مبادرة "كوكب أذكى"، التي أطلقتها شركة تكنولوجيا المعلومات الأميركية "IBM" عام 2008، بهدف معلن تمثل بتشجيع تطوير الأنظمة الأكثر ذكاءً، من الشبكات الرقمية وأنظمة إدارة المياه، وحلول مشاكل الازدحام المروري، إلخ.
وتكشف سوكول أن "IBM" سلّطت الضوء مراراً على عيوب المدن، مثل العجز المالي، وإهدار الموارد، والتوسع الحضري، والتلوث، وغيرها، ورسّخت هذه الصور السلبية لمدن مريضة عاجزة عن تلبية احتياجاتها الأساسية.
كذلك عززت الحاجة إلى الإصلاح والتوجيه، اللذين لا يملك أحدٌ غيرهم تقديمهما.
محرك لتطوير حضري أفضل
من جهة أخرى، في دراستهما "ما وراء المدن الذكية البائسة؟ فتح آفاق مستقبل طوباوي تقدمي في مجال التحضر الذكي" (2025)، يرى الباحثان شونا جوغيجان وفيديريكو كوجورولو أن الروايات السائدة ساهمت في "تشوّه سمعة المدينة الذكية، واصفةً إياها فقط بأنها مشروع استغلالي لشركات رأسمالية تقنية ذات مسؤولية محدودة".
ويعود الباحثان إلى كتابات الفيلسوف الألماني إرنست بلوخ الذي يُركز على قدرة البشرية على تصور عالم أفضل والسعي الحثيث لتحقيقه قدر الإمكان، وأن فهمه لليوتوبيا يعطي الإمكان لتجاوز الانتقادات المُقيّدة للتكنولوجيا الحضرية، ويُمكن اعتباره مُناصراً للمدن التي تُحقّق إمكاناتها مساحات نابضة بالحياة، وعادلة، ومُحرّرة لجميع سكانها من خلال استكشاف مستقبل أفضل.
وإذا كانت المدينة الفاضلة في الفلسفات المثالية تقوم على أساس الرهان على وعي الإنسان وإرادته في تحقيق الخير، وإنماء الطبيعة الخيّرة فيه، فإن الخطابات والتصوّرات المروّجة للمدن الذكية اليوم تعيد تعريف هذه القيم بحيث تتحول إلى معادلات خالية من أي بعد إنساني.
إن الاختلاف الجوهري بين التصوّرات اليوتوبية الفلسفية والتصوّرات الرقمية هو أن الفلاسفة افترضوا أن الإنسان يمكن تهذيبه وفق منظومة قيمية في حين أن المدن المدارة بالذكاء الاصطناعي تفترض أن تحسين المجتمع لا يتطلب "وعياً" وإصلاحاً للداخل الإنساني، بل تنظيما مادياً رقمياً وحسابياً في البيئة الخارجية المحيطة به.
* خالد بشير
باحث من الأردن